الحمد لله.
أولًا:
المراد بالأحرف المقطعة في القرآن
قوله تعالى: (كهيعص) من الأحرف المقطعة، وهو فاتحة سورة (مريم). وهذه الحروف ليس لها معنى، يعني: في نفسها؛ وإن كان لها مغزى تشير إليه!!
وهذا التقرير مبني على أنَّ الحرف في لغة العرب لا معنى له، والقرآن نزل بلغتهم؛ كما قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [يوسف: 2]، والعرب لم تجعل للحرف المفرد معنى، فحرف الصاد بمفرده لا معنى له، وكذا حرف الدال، وحرف القاف، لكن إذا جمعتها إلى بعضها تركَّب منها كلمة لها مدلول، وهي صدق، وهكذا غيرها من الأحرف التي هي مباني الكلام.
ولما كان الحرف لا معنى له في لغتهم، فإنه لا يُتطلَّب لهذه الأحرف معنى محدّدٌ تدلُّ عليه.
وإذا تأمَّلت جمهور تفسير السلف، وجدته راجعًا إلى هذا التحرير الذي ذكرناه.
وقد أشار إلى ذلك بعض المحققين. قال الراغب الأصفهاني (ت: بعد 400):
«... وقال: أَلَمْ ذَلِكَ الْكِتَابُ [البقرة: 1 - 2] تنبيهًا على أن هذا الكتاب مركب من هذه الحروف التي هي مادة الكلام».
وقال: إن المفهوم من هذه الحروف..: ما ذهب إليه المحققون من أهل اللغة؛ كالفراء وقطرب ـ وهو قول ابن عباس وكثير من التابعين على ما نبينه من بعد ـ وهو أن هذه الحروف لما كانت عنصر الكلام، ومادته التي يتركب منها؛ بيَّن تعالى أنَّ هذا الكتاب من هذه الحروف التي أصلها عندكم، تنبيهًا على إعجازهم، وأنه لو كان من عند البشر لما عجزتم ـ مع تظاهركم ـ عن معارضته.
وقال: «وما روي عن ابن عباس أن هذه الحروف اختصار من كلمات، فمعنى: ألم: أنا الله أعلم، ومعنى ألمر: أنا الله أعلم وأرى، فإشارة منه إلى ما تقدم. وبيان ذلك ما ذكره بعض المفسرين: أنَّ قصده بهذا التفسير ليس أن هذه الحروف مختصة بهذه المعاني دون غيرها، وإنما أشار بذلك إلى ما فيه الألف واللام والميم من الكلمات، تنبيهًا أن هذه الحروف منبع هذه الأسماء، ولو قال: إنَّ اللام يدل على اللعن، والميم على المكر، لكان يُحتمل، ولكن تحرَّى في المثال اللفظ الأحسن؛ كأنه قال: هذه الحروف هي أجزاء ذلك الكتاب.
ومثل هذا في ذكر نُبَذٍ، تنبيهًا على نوعه، قول ابن عباس في قوله تعالى: ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر: 8]: أنه الماء الحار في الشتاء، ولم يُرِدْ به أن النعيم ليس إلا هذا، بل أشار إلى بعض ما هو نعيم، تنبيهًا على سائره، فكذلك أشار بهذه الحروف إلى ما يتركب منها، وعلى ذلك ما رواه السُّدِّيُّ عنه أن ذلك حروف إذا رُكِّبت يحصل منها اسم الله.
وكذلك ما روي عنه أنه قال: هي أقسام؛ غير مخالف لهذا القول، وذاك أن الأقسام الواردة في فواتح السور إنما هي بنعم، وأجوبتها تنبيه عليها، فيكون قوله: أَلَمْ ذَلِكَ الْكِتَابُ [البقرة: 1 - 2]: جملة في تقدير مقسم به، وقوله: لاَ رَيْبَ فِيهِ [البقرة: 2] جوابها، ويكون إقسامه بها تنبيهًا على عِظَمِ موقعها، وعلى عجزنا عن معارضة كتابه المؤلف منها.
فإن قيل: لو كان قسمًا، لكان فيه حرف القسم.
قيل: إن حرف القسم يُحتاج إليه إذا كان المقسم به مجرورًا؛ فأما إذا كان مرفوعًا نحو: ويمُ الله، أو منصوبًا نحو: يمينَ الله، فليس بمحتاج إلى ذلك.
وما قاله زيد بن أسلم والحسن ومجاهد وابن جريج أنها أسماء للسور، فليس بمناف للأول، فكل سورة سُمِّيت بلفظ متلو منها، فله في السورة معنى معلوم. وعلى هذا القصائد والخطب المسماة بلفظ منها ما يفيد معنى فيها.
وكذلك ما قاله أبو عبيدة، وروي أيضًا عن مجاهد وحكاه قطرب والأخفش: أن هذه الفواتح دلائل على انتهاء السورة التي قبلها، وافتتاح ما بعدها، فإن ذلك يقتضي، من حيث إنها لم تقع إلاَّ في أوائل السور؛ يقتضي ما قالوه، ولا يوجب ذلك أن لا معنى سواه... انظر: مفهوم التفسير والتأويل، والاستنباط، د. مساعد الطيار: (150 - 153)، مقدمة جامع التفاسير: (146 - 148).
وينظر للفائدة جواب السؤال رقم (309152).
ثانيًا:
قصة منسوبة لمالك بن دينار حول (كهيعص)
أما القصة المذكورة عن مالك بن دينار، فإن الكتاب المشار إليه: يروي هذه الحكايات بلا سند، ولم نقف عليها في شيء من المصادر المتقدمة، أو الكتب المسندة المعتبرة.
وعلى كل حال؛ فالزاد الحقيقي هو التقوى، فينبغي للإنسان أن يتزود وألا يتكل، كما قال سبحانه: وتزودوا فإن خير الزاد التقوى [البقرة: 197]، وعن مجاهد: قال: "كان أهل اليمن يتوصلون بالناس، فأمروا أن يتزودوا، ولا يستمتعوا؛ قال: وخير الزاد التقوى "، انتهى، "تفسير الطبري" (3/ 497).
والله أعلم.
تعليق