الحمد لله.
أولًا :
المراد بوراثة سليمان لداود
يقول تعالى : وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَاأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ [النمل: 16].
تتابعت أقوال أهل التفسير أنَّ المراد بوراثة سليمان لداود عليهما السلام وراثة العلم والملك، يقول "الطبري": "يقول تعالى ذكره: وورث سليمان [النمل: 16] أباه داود العلم الذي كان آتاه الله في حياته، والملك الذي كان خصَّه به على سائر قومه، فجعله له بعد أبيه داود، دون سائر ولد أبيه".
"تفسير الطبري": (18/ 24).
وعن قتادة: "ورَّثه نبوتَه، وملكه، وعلمه".
"تفسير ابن أبي حاتم": (9/ 2854).
قال ابن كثير: ".. فَتَعَيَّنَ حَمْلُ قَوْلِهِ: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي عَلَى مِيرَاثِ النُّبُوَّةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ [النَّمْلِ: 16] أَيْ: فِي النُّبُوَّةِ؛ إِذْ لَوْ كَانَ فِي الْمَالِ لَمَا خَصَّهُ مِنْ بَيْنِ إِخْوَتِهِ بِذَلِكَ، وَلَمَا كَانَ فِي الْإِخْبَارِ بِذَلِكَ كَبِيرُ فَائِدَةٍ، إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ الْمُسْتَقِرِّ فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ وَالْمِلَلِ أَنَّ الْوَلَدَ يَرِثُ أَبَاهُ، فَلَوْلَا أَنَّهَا وِرَاثَةٌ خَاصَّةٌ لَمَا أَخْبَرَ بِهَا، وَكُلُّ هَذَا يُقَرِّرُهُ وَيُثْبِتُهُ مَا صَحَّ فِي الْحَدِيثِ: (نَحْنُ مُعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ، مَا تَرَكَنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ)"، انتهى، من "تفسير ابن كثير":(5/ 213).
وقال: "وَقَوْلُهُ: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ أَيْ: فِي الْمُلْكِ وَالنُّبُوَّةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ وراثَةَ الْمَالِ؛ إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخُصَّ سُلَيْمَانَ وَحْدَهُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ أَوْلَادِ دَاوُدَ، فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ لِدَاوُدَ مائةُ امْرَأَةٍ. وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ وراثةُ الْمُلْكِ وَالنُّبُوَّةِ؛ فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا تُوَرَّثُ أَمْوَالُهُمْ، كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: نَحْنُ مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُوَرَّثُ، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ)"، انتهى، من "تفسير ابن كثير": (6/ 182).
ثانيًا :
هل ورث سليمان الخيل من أبيه داود عليهما السلام؟
أمَّا وراثة الخيل فذكرها مقاتل كما قال : "ورث سليمان من أبيه داود عليهما السلام ألف فرس، وكان أبوه أصابها من العمالقة"، انتهى، من تفسير الثعلبي: (22/ 526).
وليس هذا هو القول الوحيد، وإنما ذكر بعضهم أنَّ سليمان غنمها من إحدى المعارك، وذكر بعضهم أنَّ لها أجنحة وأنها خرجت من البحر إلى آخره.
انظر : "تفسير الثعلبي" (22/ 526 - 527).
وهذا القول عن مقاتل يحتمل أحد أمرين:
الأول: أنَّه توسع في ذكر لفظ التوريث ، وأنَّ مراده به أنَّ داود وهبها له ، أو صارت في ملك سليمان لا على جهة التملك ، وإنما لأنها وقعت في ملكه ، لأنَّه ورث الملك بعد داود .
قال العلامة الطاهر ابن عاشور، رحمه الله:
" طوى خبر ملك داود وبعض أحواله إلى وفاته لأن المقصود هو قصة سليمان كما قدمناه آنفا. وقد كان داود ملكا على بني إسرائيل، ودام ملكه أربعين سنة، وتوفي وهو ابن سبعين سنة، فخلفه سليمان، فهو وارث ملكه ، والقائم في مقامه في سياسة الأمة ، وظهور الحكمة ، ونبوءة بني إسرائيل والسمعة العظيمة بينهم.
فالإرث هنا مستعمل في معناه المجازي ، وهو تشبيه الأحوال الجليلة بالمال ، وتشبيه الخِلْفة بانتقال ملك الأموال ؛ لظهور أنْ ليس غرضُ الآية إفادة من انتقلت إليه أموال داود ، بعد قوله: ( ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا ) [النمل: 15] ؛ فتعين أن إرث المال غير مقصود ؛ فإنه غرض تافه، وقد كان لداود أحد عشر ولدا، فلا يُختص إرث ماله بسليمان، وليس هو أكبرهم، وكان داود قد أقام سليمان مَلِكا على إسرائيل.
وبهذا يظهر أن ليس في الآية ما يحتج به لجواز أن يورث مال النبيء، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا نورث ما تركنا صدقة. " انتهى، من "التحرير والتنوير" (19/235).
وتعبير ابن عطية بأنه (تركها له)، يوحي أنَّها وقعت في ملك سليمان تبعًا لوراثته الملك ، وهي من جملة الملك.
الثاني : أنَّه خطأٌ مردود ، قال "المظهري" : "وقال مقاتل ورث سليمان من أبيه داود ألف فرس ، ويرد هذا القول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة)" ، انتهى .
"التفسير المظهري" (8/ 175).
والله أعلم.
تعليق