الاثنين 22 جمادى الآخرة 1446 - 23 ديسمبر 2024
العربية

القول بوصول دعوة الرسل إلى بعض أهل الجاهلية، هل يعارض حقيقة أنهم لم يرسل إليهم رسول من قبل؟

360405

تاريخ النشر : 12-06-2022

المشاهدات : 4934

السؤال

قرأت بعض الإجابات المتعلقة بموضوع مصير والدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولم أجد ما يوفق بين قوله تعالى : (لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)، وأن والديه صلى الله عليه وسلم قد بلغتهما دعوة إبراهيم عليه السلام، كما ورد في الإجابات التي قرأتها، منها إجابة الشيخ ابن باز، فأرجو منكم التوفيق والتوضيح.

الجواب

الحمد لله.

من المعلوم أن نصوص الوحي لا يعارض بعضها بعضا؛ لأنها كلها من عند الله تعالى، ولهذا إذا ظهر لأهل العلم من ظواهر النصوص ما يوهم التعارض؛ اتبعوا سبيل الجمع بينهما حتى لا يردّ نص شرعي بسبب توهم التعارض.

قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:

" والمقرر في علم الأصول وعلم الحديث أنه إذا أمكن الجمع بين الحديثين وجب الجمع بينهما إجماعا، ولا يرد غير الأقوى منهما بالأقوى؛ لأنهما صادقان، وليسا بمتعارضين، وإنما أجمع أهل العلم على وجوب الجمع بين الدليلين إن أمكن؛ لأن إعمال الدليلين معا أولى من إلغاء أحدهما كما لا يخفى " انتهى من "أضواء البيان" (5 / 161).

ولهذا لما ورد حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لِأُمِّي فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي  رواه مسلم (976).

وحديث أَنَسٍ:

" أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيْنَ أَبِي؟

قَالَ: (فِي النَّارِ)، فَلَمَّا قَفَّى دَعَاهُ، فَقَالَ: إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ رواه مسلم (203).

ومن المعلوم أنهما قد ماتا قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فأوهم هذان الحديثان وجود تعارض مع قول الله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا  الإسراء/15.

قال ابن كثير رحمه الله تعالى:

"... وكذا قوله تعالى: ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ) إخبار عن عدله تعالى، وأنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه بإرسال الرسول إليه...

إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الله تعالى لا يدخل أحدا النار إلا بعد إرسال الرسول إليه " انتهى من "تفسير ابن كثير" (5 / 52).

فحاول بعض أهل العلم الجمع بين هذه النصوص بأوجه أهمها:

الوجه الأول:

أن أهل الفترة الذين ماتوا ولم تصلهم دعوة نبي؛ أنهم يمتحنون يوم القيامة، فعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنهما لن يستجيبا؛ فأخبر بمآل حالهما.

قال ابن كثير رحمه الله تعالى:

" وإخباره صلى الله عليه وسلم عن أبويه وجده عبد المطلب بأنهم من أهل النار، لا ينافي الحديث الوارد عنه من طرق متعددة: أن أهل الفترة، والأطفال، والمجانين، والصم، يمتحنون في العرصات يوم القيامة، كما بسطناه سندا ومتنا في تفسيرنا عند قوله تعالى ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا )، فيكون منهم من يجيب، ومنهم من لا يجيب، فيكون هؤلاء من جملة من لا يجيب، فلا منافاة ولله الحمد والمنة " انتهى من"البداية والنهاية" (3 / 429).

الوجه الثاني:

أنهما في النار لاحتمال وصول دعوة نبي إليهما، كدعوة إسماعيل عليه الصلاة والسلام، حتى إن بعض أهل العلم رأى أن أهل الجاهلية بلغهم الحق من بقايا دعوة إسماعيل عليه السلام وبما كان يصلهم من أخبار أهل الكتاب.

قال ابن عطية رحمه الله تعالى:

" وأما صاحب الفترة : فليس ككفار قريش قبل النبي صلى الله عليه وسلم، لأن كفار قريش وغيرهم ممن علم وسمع عن نبوة ورسالة في أقطار الأرض، فليس بصاحب فترة، والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال: ( أبي وأبوك في النار )، ورأى عمرو بن لحي في النار. إلى غير هذا مما يطول ذكره، وأما صاحب الفترة يفرض أنه آدمي، لم يطرأ إليه أن الله تعالى بعث رسولا ولا دعا إلى دين " انتهى من"المحرر الوجيز" (4 / 72).

وقال النووي رحمه الله تعالى:

" قوله ( أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيْنَ أَبِي؟ قَالَ: فِي النَّارِ، فَلَمَّا قَفَّى دَعَاهُ، فَقَالَ: إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ ) .

فيه : أن من مات على الكفر فهو في النار، ولا تنفعه قرابة المقربين.

وفيه : أن من مات في الفترة، على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان : فهو من أهل النار، وليس هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة؛ فإن هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم " انتهى من "شرح صحيح مسلم" (3 / 79).

وهذا الجمع لا يتعارض مع الآيات المخبرة بأن أهل مكة والعرب معهم لم يرسل إليهم نبي، ولم ينزل عليهم كتاب. قال الله تعالى: وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ سبأ/44.

قال ابن كثير رحمه الله تعالى:

" أي: ما أنزل الله على العرب من كتاب قبل القرآن، وما أرسل إليهم نبيا قبل محمد صلى الله عليه وسلم " انتهى من "تفسير ابن كثير" (6 / 525).

وقال الله تعالى: لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ القصص/46.

وقال الله تعالى: لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ السجدة/3.

قال الطبري رحمه الله تعالى:

" وقوله: ( لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ ) يقول تعالى ذكره: ولكن أرسلناك بهذا الكتاب، وهذا الدين، لتنذر قوما لم يأتهم من قبلك نذير، وهم العرب الذين بُعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعثه الله إليهم رحمة لينذرهم بأسه على عبادتهم الأصنام، وإشراكهم به الأوثان والأنداد " انتهى من "تفسير الطبري" (18 / 263).

فالآيات نصت على أنه لم يرسل فيهم نبي، ولم تنص على أنه لم تصلهم ولم تبلغ إلى أحد منهم دعوة نبي أرسل من قبل.

قال القرطبي في تفسير قول الله تعالى:( لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ) يس/6.

قال رحمه الله تعالى:

" يجوز أن تكون العرب قد بلغتهم بالتواتر أخبار الأنبياء، فالمعنى لم ينذروا برسول من أنفسهم. ويجوز أن يكون بلغهم الخبر، ولكن غفلوا وأعرضوا ونسوا " انتهى من"تفسير القرطبي" (17 / 412).

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:

" ( لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ ) أي: لم ينذروا في زمن الفترة . وعلى هذا فـ (مَا) نافية، يعني: لتنذر قوما لم يُنذَروا ولم يُخوَّفوا، لكن هذا في زمن الفترة، وأما قبل؛ فقد أنذروا بواسطة إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، فإنه مرسل إلى العرب إلى قومه، وبعد ذلك لم ينذر هؤلاء...

لكن من هؤلاء الذين في زمن الفترة من عنده علم من الرسالة، لكنه عاند وبقي على ما كان عليه آباؤه، كالذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالنار، فالذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالنار: نعلم علم اليقين أن هؤلاء قد قامت عليهم الحجة ، ولولا ذلك ما كانوا من أهل النار... " انتهى من  "تفسير سورة يس" (ص 20 – 21).

كما أن هذا واقع حصل؛ فقد وصل لبعض العرب قبل الإسلام دعوة التوحيد، فأقلعوا عن عبادة الأصنام. كحال زيد بن عمرو بن نفيل.

عَنْ ابْنِ عُمَرَ: " أَنَّ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ يَسْأَلُ عَنِ الدِّينِ، وَيَتْبَعُهُ، فَلَقِيَ عَالِمًا مِنَ اليَهُودِ فَسَأَلَهُ عَنْ دِينِهِمْ، فَقَالَ: إِنِّي لَعَلِّي أَنْ أَدِينَ دِينَكُمْ، فَأَخْبِرْنِي، فَقَالَ: لاَ تَكُونُ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ، قَالَ زَيْدٌ مَا أَفِرُّ إِلَّا مِنْ غَضَبِ اللَّهِ، وَلاَ أَحْمِلُ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ شَيْئًا أَبَدًا، وَأَنَّى أَسْتَطِيعُهُ؟ فَهَلْ تَدُلُّنِي عَلَى غَيْرِهِ؟ قَالَ: مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا، قَالَ زَيْدٌ: وَمَا الحَنِيفُ؟ قَالَ: دِينُ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا، وَلاَ نَصْرَانِيًّا، وَلاَ يَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ، فَخَرَجَ زَيْدٌ فَلَقِيَ عَالِمًا مِنَ النَّصَارَى فَذَكَرَ مِثْلَهُ، فَقَالَ: لَنْ تَكُونَ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ، قَالَ: مَا أَفِرُّ إِلَّا مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ، وَلاَ أَحْمِلُ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ، وَلاَ مِنْ غَضَبِهِ شَيْئًا أَبَدًا، وَأَنَّى أَسْتَطِيعُ؟ فَهَلْ تَدُلُّنِي عَلَى غَيْرِهِ؟ قَالَ: مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا، قَالَ: وَمَا الحَنِيفُ؟ قَالَ: دِينُ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا، وَلاَ يَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ، فَلَمَّا رَأَى زَيْدٌ قَوْلَهُمْ فِي إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ خَرَجَ، فَلَمَّا بَرَزَ رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْهَدُ أَنِّي عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ " رواه البخاري (3827).

فالحاصل؛ أن العذاب لا يقع على العبد إلا بعد أن تقوم عليه الحجة بالرسل؛ وأن العرب في الجاهلية لم تأتهم رسل، فلم تكن الحجة قائمة عليهم من حيث العموم، لكن كان يطرق على أسماع بعضهم بعض ما وصل إلى زمنهم من دعوات رسل سابقين، فلا نستطيع أن نقطع أن فلانا بعينه من أهل الجاهلية لم تبلغه حجة ولم يعاند.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى:

" والله يقضى بين عباده يوم القيامة بحكمه وعدله، ولا يعذب إلا من قامت عليه حجته بالرسل.

فهذا مقطوع به في جملة الخلق.

وأما كون زيد بعينه ، وعمرو بعينه : قامت عليه الحجة أم لا؛ فذلك مما لا يمكن الدخول بين الله وبين عباده فيه، بل الواجب على العبد أن يعتقد أن كل من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر، وأن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسول.

هذا في الجملة ، والتعيين موكول إلى علم الله عز وجل وحكمه.

هذا في أحكام الثواب والعقاب.

وأما في أحكام الدنيا فهي جارية مع ظاهر الأمر " انتهى من "طريق الهجرتين" (2 / 900).

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب