الحمد لله.
أولًا :
قال الله تعالى : أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا * كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا * وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا * أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا * فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا * يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا * لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ) مريم/77-87.
قال الراغب الأصفهاني، رحمه الله: " العَهْدُ: حفظ الشيء ومراعاته حالا بعد حال.
وسمّي المَوْثِق، الذي يلزم مراعاته: عَهْداً. قال: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا) [الإسراء/ 34] ، أي: أوفوا بحفظ الأيمان.
قال: (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة/ 124] ، أي: لا أجعل عهدي لمن كان ظالما...
وعَهِدَ فلان إلى فلان، يَعْهَدُ، أي: ألقى إليه العهد، وأوصاه بحفظه، قال: (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ) " انتهى من "المفردات" (591).
وقال د. محمد حسن جبل، رحمه الله:
" • (عهد): ...
المعنى المحوري: تكرر العود إلى موقع بعينه - على فترة بين المرة والأخرى - كالمَطْرة بعد المَطْرة، والمنزل الموصوف، والمَطْرة التي تكون أَوّلًا لما يأتي بعدها ...
ومن ذلك: "العهد: الحِفاظ، ورعاية الحُرْمة. "وإن حُسْنَ العهد من الإيمان ""إن كَرَم العهد. . ". أي رعاية المودّة (التي سبقت معاودة وتكرار). وهذا ملحوظ في قوله تعالى: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا: (يُرجَع إليه ويُلتزم به)، لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا [مريم: 78, 87]. إما بدعاءٍ بذلك في الدنيا، أو شهادة أن لا إله إلا اللَّه، أو أعمالٍ صالحة (أسلفها) [قر 11/ 154، بحر 6/ 201، 204].." انتهى، باختصار، من "المعجم الاشتقاقي" (3/1544).
ولما تقرر من ذلك، قال سفيان، في قوله تعالى: ( أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ): "موثقا".
رواه البخاري(4733).
ومعنى ذلك: أن هذا الكافر ليس له عند الله عهد ولا وعد ألا يذيقه العذاب في الآخرة، فإن هذا العهد والوعد من الله ، إنما هو لأهل الإيمان والعمل الصالح. وهذا ليس له إيمان، ولا عمل صالح. ولذلك يعبر كثير من المفسرين عن "العهد" بالإيمان، أو التوحيد، أو العمل الصالح؛ وهذا تفسير بالمعنى، وليس هو التفسير المطابق للفظ، فإن العهد هو ما تقدم ذكره؛ لكن لما كان هذا الوعد بالجنة، والعهد بالأمن من العذاب والخلود في النيران، إنما هو لأهل التوحيد والعمل الصالح؛ عبر المفسرون عن ذلك "العهد" بأنه الإيمان، والعمل الصالح.
قال الإمام الطبري، رحمه الله : " وقوله: أطلع الغيب يقول عز ذكره: أَعَلِمَ هذا القائل هذا القولَ علم الغيب، فعلم أن له في الآخرة مالا وولدا، باطلاعه على علم ما غاب عنه؟
أم اتخذ عند الرحمن عهدا [مريم: 78] ، يقول: أم آمن بالله ، وعمل بما أمر به، وانتهى عما نهاه عنه؛ فكان له بذلك عند الله عهد أن يؤتيه ما يقول من المال والولد.
كما: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا بعمل صالح قدمه" انتهى من "تفسير الطبري" (15/620-621).
وقال القرطبي، رحمه الله : " قال قتادة والثوري: أي عملا صالحا. وقيل: هو التوحيد. وقيل: هو من الوعد. وقال الكلبي: عاهد الله تعالى أن يدخله الجنة." انتهى من "تفسير القرطبي" (11/146).
ففي الآية الأولى ذكر الله أنَّ هذا الكافر لم يؤمن ، وإنما تمرد وتجبَّر ، ولم يتخذ عند الله موثقًا بالعمل الصالح .
وفي الآية الثانية ذكر الله أنَّ من آمن به من أهل الإيمان فقد عهد الله لهم أن يدخلهم الجنة .
قال "ابن كثير" : "وقوله: إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا : هذا استثناء منقطع، بمعنى: لكن من اتخذ عند الرحمن عهدا، وهو شهادة أن لا إله إلا الله، والقيام بحقها.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا قال: العهد: شهادة أن لا إله إلا الله، ويبرأ إلى الله من الحول والقوة، ولا يرجو إلا الله، عز وجل.
... عن الأسود بن يزيد قال: قرأ عبد الله -يعني ابن مسعود-هذه الآية: إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا ثم قال: اتخذوا عند الله عهدا، فإن الله يقول يوم القيامة: "من كان له عند الله عهد فليقم" قالوا: يا أبا عبد الرحمن، فعلمنا. قال: قولوا: اللهم، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، فإني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا أنك إن تكلني إلى عمل تقربني من الشر وتباعدني من الخير، وإني لا أثق إلا برحمتك، فاجعل لي عندك عهدا تؤديه إلي يوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد" انتهى من "تفسير ابن كثير" (5/ 265)، بتصرف يسير.
قال السعدي: " أي: أفلا تتعجب من حالة هذا الكافر، الذي جمع بين كفره بآيات الله ودعواه الكبيرة، أنه سيؤتى في الآخرة مالا وولدا، أي: يكون من أهل الجنة، هذا من أعجب الأمور، فلو كان مؤمنا بالله وادعى هذه الدعوى، لسهل الأمر.
وهذه الآية -وإن كانت نازلة في كافر معين- فإنها تشمل كل كافر، زعم أنه على الحق، وأنه من أهل الجنة، قال الله، توبيخا له وتكذيبا: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أي: أحاط علمه بالغيب، حتى علم ما يكون، وأن من جملة ما يكون، أنه يؤتى يوم القيامة مالا وولدا؟ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا أنه نائل ما قاله، أي: لم يكن شيء من ذلك، فعلم أنه متقول، قائل ما لا علم له به.
وهذا التقسيم والترديد، في غاية ما يكون من الإلزام وإقامة الحجة؛ فإن الذي يزعم أنه حاصل له خير عند الله في الآخرة، لا يخلو: إما أن يكون قوله صادرا عن علم بالغيوب المستقبلة، وقد علم أن هذا لله وحده، فلا أحد يعلم شيئا من المستقبلات الغيبية، إلا من أطلعه الله عليه من رسله.
وإما أن يكون متخذا عهدا عند الله، بالإيمان به، واتباع رسله، الذين عهد الله لأهله، وأوزع أنهم أهل الآخرة، والناجون الفائزون.
فإذا انتفى هذان الأمران، علم بذلك بطلان الدعوى، ولهذا قال تعالى: كَلا أي: ليس الأمر كما زعم، فليس للقائل اطلاع على الغيب، لأنه كافر، ليس عنده من علم الرسائل شيء، ولا اتخذ عند الرحمن عهدا، لكفره وعدم إيمانه، ولكنه يستحق ضد ما تقوله، وأن قوله مكتوب، محفوظ، ليجازى عليه ويعاقب، ولهذا قال: سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا أي: نزيده من أنواع العقوبات، كما ازداد من الغي والضلال.
وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ أي: نرثه ماله وولده، فينتقل من الدنيا فردا، بلا مال ولا أهل ولا أنصار ولا أعوان وَيَأْتِينَا فَرْدًا فيرى من وخيم العذاب وأليم العقاب، ما هو جزاء أمثاله من الظالمين.
أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا * فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا.
وهذا من عقوبة الكافرين أنهم -لما لم يعتصموا بالله، ولم يتمسكوا بحبل الله، بل أشركوا به ووالوا أعداءه، من الشياطين- سلطهم عليهم، وقيضهم لهم، فجعلت الشياطين تؤزهم إلى المعاصي أزا، وتزعجهم إلى الكفر إزعاجا، فيوسوسون لهم، ويوحون إليهم، ويزينون لهم الباطل، ويقبحون لهم الحق، فيدخل حب الباطل في قلوبهم ويتشربها، فيسعى فيه سعي المحق في حقه، فينصره بجهده ويحارب عنه، ويجاهد أهل الحق في سبيل الباطل، وهذا كله، جزاء له على توليه من وليه وتوليه لعدوه، جعل له عليه سلطان، وإلا فلو آمن بالله، وتوكل عليه، لم يكن له عليه سلطان، كما قال تعالى:
إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ
فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ أي على هؤلاء الكفار المستعجلين بالعذاب إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا أي أن لهم أياما معدودة لا يتقدمون عنها ولا يتأخرون نمهلهم ونحلم عنهم مدة ليراجعوا أمر الله فإذا لم ينجع فيهم ذلك أخذناهم أخذ عزيز مقتد" انتهى من "تفسير السعدي" (ص500).
ثانيًا :
وعلى ذلك ، فعلى العبد أن يجتهد في تصحيح توحيده، والعمل بما أمره به ربه، وعهده إليه، من الإيمان والعمل الصالح، لينال عهد الله جل جلاله؛ فإن الله اشترط لهذا العهد بالنجاة من عذاب يوم القيامة، أن يكون صاحبه من أهل الإيمان، وترك الظلم . قال تعالى: ( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ) الأنعام/82.
ولما سأل إبراهيم عليه السلام ربه أن يجعل إمامة المتقين باقية في ذريته، بين الله جل جلاله: أن الظالمين ليس لهم نصيب في ذلك. قال تعالى: ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) البقرة/124.
ومن كان من أهل الإيمان والعمل الصالح، فهو على رجاء من ذلك الخير، وألا يخيب الله ظنه فيه، ولا رجاءه منه.
قال القشيري، رحمه الله، في آية مريم السابقة: " "ودليل الخطاب يقتضى أن المؤمن إذا ظن بالله تعالى ظنا جميلا، أو أمّل منه أشياء كثيرة فالله تعالى يحققها له، ويصدق ظنّه لأنه على عهد مع الله تعالى، والله تعالى لا يخلف عهده." انتهى من "لطائف الإشارات" (2/441).
لكن ما كان من ذلك على وجه الدعاء بأمر من الخير يطلبه في هذه الدنيا؛ فلا بد أن يعلم أنه لا يلزم في استجابة الدعاء حصول المطلوب بعينه، أو حصوله له ظاهرا، عاجلا؛ لأن قبول الله تعالى لدعوة من دعاه، وإجابته لما طلب، على أنواع: إما تعجل له دعوته بخصوصها، أو أن يصرف عنه من السوء بمثلها، أو يدَّخر ذلك له أجراً وثواباً يوم القيامة .
فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهَا، قَالُوا : إِذًا نُكْثِرُ ؟ قَالَ : اللَّهُ أَكْثَر ).
رواه أحمد (10749)، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (1633).
انظر الجواب رقم: (153316).
والله أعلم.
تعليق