الحمد لله.
الواجب فهم كلام الله تعالى على ما يوافق اللغة العربية التي نزل بها القرآن .
ولا يصح أن تفسر ألفاظ القرآن الكريم باللغة والمصطلحات التي تعارف عليها الناس بعد ذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" ومن لم يعرف لغة الصحابة التي كانوا يتخاطبون بها، ويخاطبهم بها النبي صلى الله عليه وسلم، وعادتهم في الكلام؛ وإلا حرف الكلم عن مواضعه، فإن كثيرا من الناس ينشأ على اصطلاح قومه، وعادتهم في الألفاظ، ثم يجد تلك الألفاظ في كلام الله أو رسوله أو الصحابة، فيظن أن مراد الله أو رسوله أو الصحابة بتلك الألفاظ، ما يريده بذلك أهل عادته واصطلاحه، ويكون مراد الله ورسوله والصحابة خلاف ذلك. وهذا واقع لطوائف من الناس من أهل الكلام والفقه والنحو والعامة وغيرهم " انتهى من "مجموع الفتاوى"(1/243).
وقال ابن القيم رحمه الله وتعالى:
" تنزيلُ كلامه على الاصطلاحات التي أحدثَها أربابُ العلوم من الأصوليِّين والفقهاء وعلم أحوال القلوب وغيرهم، فإنَّ لكلًّ من هؤلاء اصطلاحاتٍ حادثةً في مخاطباتهم وتصانيفهم، فيجيءُ من قد أَلِفَ تلك الاصطلاحات الحادثة وسبقَت معانيها إلى قلبه فلم يعرِف سواها، فيسمعُ كلامَ الشارع فيحملُه على ما ألِفَه من الاصطلاح، فيقعُ بسبب ذلك في الفهم عن الشارع ما لم يُرِده بكلامه، ويقعُ من الخلل في نظره ومناظرته ما يقع.
وهذا من أعظم أسباب الغلط عليه، مع قلَّة البضاعة من معرفة نصوصه.
فإذا اجتمعت هذه الأمورُ مع نوع فسادٍ في التصوُّر، أو القصد، أوهَما ما شئتَ من خَبْطٍ وغلطٍ وإشكالاتٍ واحتمالاتٍ وضرب كلامه بعضه ببعض، وإثبات ما نفاه ونفي ما أثبته، والله المستعان " انتهى من"مفتاح دار السعادة"(3/1597).
ومن هذا الباب ما ورد في القرآن من لفظ: "الذرة".
كما في قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا النساء/40.
فلفظ:( ذَرَّةٍ ) هنا لا يصح أن يفهم على ما تعارف عليه المشتغلون بعلم الفيزياء في هذا الزمن.
وإنما تفهم على وفق ما كان يطلقه العرب زمن نزول الوحي، فهم يطلقونها على أصغر ما يمكن للعين أن تبصره.
قال القرطبي رحمه الله تعالى:
" وهي في الجملة عبارة عن أقل الأشياء وأصغرها" انتهى من"تفسير القرطبي"(6/322).
فيطلقونها على عدة أشياء صغيرة جدا.
وذكر لهم مثقالها تنبيها لهم إلى أن الإنسان محاسب على كل شيء مهما صغر، وليس تحديدا لحد الأعمال الصغيرة.
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى:
" المراد بالذرة خمسة أقوال:
أحدها: أنه رأس نملة حمراء، رواه عكرمة عن ابن عباس.
والثاني: ذرة يسيرة من التراب، رواه يزيد بن الأصم، عن ابن عباس.
والثالث: أصغر النمل، قاله ابن قتيبة، وابن فارس.
والرابع: الخردلة.
والخامس: الواحدة من الهباء الظاهر في ضوء الشمس إذا طلعت من ثقب، ذكرهما الثعلبي.
واعلم أن ذكر الذرة ضرب مثل بما يعقل، والمقصود أنه لا يظلم قليلا ولا كثيرا " انتهى من"زاد المسير" (2/84).
وأما ماورد في قوله تعالى: مَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ يونس/61.
فالآية إنما سيقت لبيان مدى سعة علم الله تعالى، ولم تسق لذكر أسماء الأشياء الصغيرة، واختص مثقال الذرة بالذكر؛ لأنه مثل ضرب لما يعقله العرب ويبصرونه من أصغر الأشياء.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:" يخبر تعالى نبيه صلوات الله عليه وسلامه أنه يعلم جميع أحواله وأحوال أمته، وجميع الخلائق في كل ساعة وآن ولحظة، وأنه لا يعزب عن علمه وبصره مثقال ذرة في حقارتها وصغرها في السموات ولا في الأرض، ولا أصغر منها ولا أكبر إلا في كتاب مبين" انتهى من"تفسير ابن كثير" (4/277).
والله أعلم.
تعليق