الخميس 6 جمادى الأولى 1446 - 7 نوفمبر 2024
العربية

هل ما يشترط في المقال من مقدمة وتمهيد وخاتمة ينطبق على أسلوب القرآن؟

432805

تاريخ النشر : 03-09-2024

المشاهدات : 648

السؤال

تعلمنا في المدارس والجامعات في كتابة النصوص أننا نحتاج إلى مقدمة، وتمهيد للفكرة، وختامها، فهل للقرآن عناصر كهذه، بحيث يكون هناك سور كمقدمة وتمهيد، وسور تختم فيها الفكرة على مستوى الكتاب بأكمله والسور؟

الجواب

الحمد لله.

أولًا:

القرآن كلام الله سبحانه وتعالى ، وقد تحدى الله العالمين أن يأتوا بمثله ، كما قال سبحانه: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا  الإسراء / 88.

وإعجاز القرآن لا منتهى له ؛ لأنه كلام الحكيم الخبير ، ونحن لا تتبين لنا وجوه البراعة في القرآن كلها لقصورنا عن مرتبة العرب الأوائل .

قال ” ابن عطية ” في ” المحرر الوجيز ” (1/ 52) : ” والصحيح أن الإتيان بمثل القرآن: لم يكن قط في قدرة أحد من المخلوقين ، ويظهر لك قصور البشر في أن الفصيح منهم يصنع خطبة أو قصيدة يستفرغ فيها جهده ، ثم لا يزال ينقحها حولًا كاملًا ، ثم تعطى لآخر نظيره ، فيأخذها بقريحة جامَّة ، فيبدل فيها وينقح ، ثم لا تزال كذلك فيها مواضع للنظر والبدل .

وكتاب الله : لو نزعت منه لفظة ، ثم أدير لسان العرب في أن يوجد أحسن منها ؛ لم يوجد .

ونحن تبين لنا البراعة في أكثره ، ويخفى علينا وجهها في مواضع لقصورنا عن مرتبة العرب يومئذ ، في سلامة الذوق ، وجودة القريحة وميز الكلام”، انتهى.

فللقرآن خصائص كثيرة يباين بها كلام البشر ، وليس في قدرة أحد من البشر أن يأتي بمثله ، وإن كان قد نزل بلغة العرب .

قال ” ابن تيمية ” : ” فإن القرآن له شأن اختُصَّ به ، لا يشبهه كلام البشر ، لا كلام نبي ولا غيره ، وإن كان نزل بلغة العرب ، فلا يقدر مخلوق أن يأتي بسورة ولا ببعض سورة مثله ” ، انتهى “مجموع الفتاوى” (16/ 536).

وقال في المظهري: ” والقرآن أكبرُ معجزةٍ من معجزات النبي عليه السلام؛ فإن الرجلَ إذا تفكَّر في القرآن، يعلم أنه لا يشبه كلامَ البشر، فيعلم أنه كلامُ الله تعالى، والله تعالى لا يُنزل كلامَه إلا على رسوله، فعَلِمَ الرجلُ أنَّ مَن أُنزِلَ عليه هذا الكلامَ رسولُ الله عليه السلام “، انتهى ” المفاتيح في شرح المصابيح ” (1/ 231).

وحينئذ يقال:

إن أول ما ينبغي عليك من النظر في القرآن، ونظمه، وإعجازه ، أن تعلم الله القرآن كلام الله جل جلاله، وأن : فَضْلُ كَلاَمِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلاَمِ، كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ ؛ كما جاء ذلك في الحديث – وراه الترمذي (2969) وفي إسناده ضعف؛ لكن معناه صحيح، بلا ريب – ؛ فهل يستويان، أو يشتبهان؟ هيهات.

إن هذه الطريقة “المدرسية” التعليمية: لا يصلح أن يقاس إليها كلام البلغاء، وكبار الأدباء والمبدعين، فضلا عن أن “يلزموا” بها؛ أفتراها تجري على كلام الله جل جلاله، حتى يطلب أن تكون فيه؟!

هيهات؛ قد أبعدت المرمى، وأخطأت السبيل إلى فهم كلام الله ، وتدبر وجوه عظمته، وإعجازه؛ فأكثر من تلاوته، وتدبر كلام أهل العلم في وجوه إعجازه، وآيات بلاغته.

وننصحك أن تقرأ بعناية الكتاب الفذ النافع: “النبأ العظيم” للعلامة المدقق: محمد عبد الله دراز، رحمه الله.

ثانيًا:

ومع ما سبق إلا أن العلماء نظروا في القرآن الكريم من جهة وحدة موضوعاته الكلية ، وأنها ترجع إلى شيء واحد ، هو أن يكون الناس عبادًا لله ، سبحانه وبحمده ، فالقرآن كله يرجع إلى تقرير توحيد الله عز وجل.

ولذلك افتتح القرآن بسورة الفاتحة ، وذكروا أن سورة الفاتحة اشتملت على المطالب العالية ، وتلتها سائر سور القرآن كتفصيل لها ، وقد بنى الإمام ” ابن القيم ” كتابه ” مدارج السالكين ” على بيان ذلك ، فقال : ” ونحن ــ بعون الله ــ ننبِّه على هذا بالكلام على فاتحة الكتاب وأمِّ القرآن ، وعلى بعض ما تضمَّنته هذه السُّورة من هذه المطالب ، وما تضمَّنته من الرَّدِّ على جميع أهل البدع والضَّلال ، وما تضمَّنته من منازل السَّائرين ومقامات العارفين ، والفرقِ بين وسائلها وغاياتها ، ومواهبها وكسبيّاتها ؛ وبيانِ أنّه لا يقوم غيرُ هذه السُّورة مقامَها ، ولا يسُدُّ مسَدَّها ، ولذلك لم ينزل في التّوراة ولا في الإنجيل ولا في الزَّبور ولا في القرآن مثلُها . والله المستعان ، وعليه التكلان ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله “، انتهى .

“مدارج السالكين” (1/ 9).

وقال ” الرازي ” : ” والمقصود من كل القرآن تقرير أمور أربعة : الإلهيات ، والمعاد ، والنبوات ، وإثبات القضاء والقدر لله تعالى ، فقوله: ( الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم ) يدل على الإلهيات ، وقوله: ( مالك يوم الدين ) يدل على المعاد، وقوله: ( إياك نعبد وإياك نستعين ) يدل على نفي الجبر والقدر، وعلى إثبات أن الكل بقضاء الله وقدره، وقوله: ( اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) يدل أيضًا على إثبات قضاء الله وقدره، وعلى النبوات، وسيأتي شرح هذه المعاني بالاستقصاء.

فلما كان المقصد الأعظم من القرآن هذه المطالب الأربعة ، وكانت هذه السورة مشتملة عليها لقبت بأم القرآن “، انتهى .”تفسير الرازي” (1/ 156).

ونقل ” السيوطي ” عن بعض العلماء في سورة ” الفاتحة ” : ” إنما كانت أعظم السور، لأنها جمعت جميع مقاصد القرآن، ولذلك سميت أم القرآن “، انتهى .”الإتقان في علوم القرآن” (4/ 139).

ثالثًا :

العلماء يبحثون في ترتيب السور القرآنية وعلاقة كل سورة بما يسبقها ، وما يأتي بعدها ، وكذلك يبحثون في تناسب وجود بعض السور كالحواميم ، وكعلاقة مجموعة من السور وسياقها في القرآن المجيد ، كالسبع الطوال ، والمفصل ، ونحو ذلك .

يقول ” الزركشي ” : ” لترتيب وضع السور في المصحف أسباب تُطلع على أنه توقيفي صادر عن حكيم “، انتهى .” البرهان في علوم القرآن ” (1/ 260).

ومما ينبغي أن يعلم أنه : ” من البيّن أن العناية بتدبُّر وتأويل علاقة فاتحة السورة ، بخاتمة التي قبلها ؛ إنّما هو كالعناية بتدبر وتأويل علاقة مقاصد السور المتتالية ببعضها ، وكالعناية بافتتاح القرآن العظيم بسورة ” الفاتحة ” : مبنيٌ على الإيمان بأن ترتيب السور في السياق الترتيلي ، الذي هو بين دفتي المصحف الذي عليه الأمة جمعاء : إنما هو مظهر من مظاهر إعجازه البياني ، وأنَّ تناسبه المعجز ليس بالمحصور في تناسب نظمه التركيبي الماثل في بناء الجملة ، بل هو أيضًا متحقق على كماله في نظمه الترتيبي الماثل في علاقات الجمل بعضها ببعض ، في بناء المعقد ، وعلاقات المعاقد بعضها ببعض في بناء السورة ، وعلاقات السور بعضها ببعض في بناء البيان القرآني العظيم كلّه ؛ مفتتحا بسورة ” الفاتحة ” ، ومختتما بسورة ” الناس ” “، انتهى.

انظر: “الإمام البقاعي ومنهاجه في تأويل بلاغة القرآن”، د. محمود توفيق : (172 – شاملة).

ونقل ” السيوطي ” عن بعض الأئمة : ” وسورة الفاتحة تضمنت الإقرار بالرّبوبية ، والالتجاء إليه في دين الإسلام ، والصيانة عن دين اليهودية والنصرانية .

وسورة البقرة تضمنت قواعد الدين .

وآل عمران تكملة المقصود ، فالبقرة بمنزلة إقامة الدين على الحكم ، وآل عمران بمنزلة الجواب عن شبهات الخصوم ، ولهذا ورد فيه ذكر المتشابه لما تمسك به النصارى .

وأوجب الحج في آل عمران .

وأما في البقرة فذكر أنه مشروع وأمر بإتمامه بعد الشروع فيه ، وكان خطاب النصارى في آل عمران أكثر ، كما أن خطاب اليهود في البقرة أكثر ، لأن التوراة أصل والإنجيل فرع لها ، والنبي – صلى الله عليه وسلم – لما هاجر إلى المدينة دعا اليهود وجاهدهم ، وكان جهاده للنصارى في آخر الأمر، كما كان دعاؤه لأهل الشرك قبل أهل الكتاب ، ولهذا كانت السور الكلية فيها الدين الذي اتفق عليه الأنبياء ، فخوطب به جميعُ الناس ، والسور المدنية فيها خطاب من أقر بالأنبياء من أهل الكتاب والمؤمنين ، فخوطبوا بأهل الكتاب ، يا بني إسرائيل ، يا أيها الذين آمنوا .

وأما سورة النساء فتضمنت أحكام الأسباب التي بيْنَ الناس ، وهي نوعان:

مخلوقة لله تعالى ، ومقدرة لهم ، كالنسب والصهر ، ولهذا افتتحت بقوله: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ) ، ثم قال : ( وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ).

فانظر هذه المناسبة العجيبة بالافتتاح وبراعة الاستهلال ، حيث تضمنت الآية المفتتح بها نظير السورة في أحكامه من نكاح النساء ومحرماته ، والمواريث المتعلقة بالأرحام ، وإن ابتداء هذا الأمر كان بخلق آدم ، ثم بخلق زوجه منه ، ثم بثّ منهما رجالًا كثيرًا ونساء في غاية الكثرة .

وأما المائدة : فقد تضمنت بيان تمام الشرائع ، وتكملات الدين ، والوفاء بعهود الرسول ، وما أخذ على الأمة ، وبهما تم الدين ، فهي سورة التكميل ، لأن فيها تحريم الصيد على المحرم الذي هو من تمام الإحرام ، وتحريم الخمر الذي هو من تمام حفظ العقل والدين ، وعقوبة المعتدين من السراق والمحاربين ، الذي هو من تمام حفظ الدماء والأموال ، وإحلال الطيبات الذي هو من تمام عبادة الله ، ولهذا ذكر فيها ما يختص بشريعة محمد – صلى الله عليه وسلم – ، كالوضوء ، والتيمم ، والحكم بالقرآن على كل ذي دين ، ولهذا أكثر فيها من لفظ الإتمام والإكمال ، وذكر فيها أن من ارتد عَوضَ الله بخير منه ، ولا يزال هذا الدين كاملًا ، ولهذا ورد فيها أنها آخر ما نزل، لما فيها من إشارات الختم والتمام .

وهذا الترتيب بين هذه السور الأربع المدنيات من أحسن الترتيب “، انتهى .

” معترك الأقران في إعجاز القرآن ” (1/ 53 – 54).

وهكذا يمكن لمح بعض أسرار الترتيب للمصحف الشريف ، ووجود مجموعة من السور بعضها مع بعض .

وقد ذكر ابن الأنباري، رحمه الله: أن الله تعالى أنزل الله القرآن – جُمْلَةً – إلى السماء الدنيا ، ثم فرَّقَه في بضع وعشرين ، فكانت السورة تنزل لأمر يحدث ، والآية جوابًا لمستخبر ، ويوقف جبريل النبي صلى الله عليه وسلم على موضع الآية والسورة ، فاتَّساق السور، كاتساق الآيات والحروف .. فمن قدم سورة أو أخرها ، فقد أفسد نظم القرآن.

انظر: “البرهان في علوم القرآن” للزركشي (1/260).

يقول “الزرقاني ” في بيان ذلك : ” القرآن الكريم تقرؤه من أوله إلى آخره ، فإذا هو محكم السرد ، دقيق السبك ، متين الأسلوب ، قوي الاتصال ، آخذ بعضه برقاب بعض في سورة وآياته وجمله ، يجري دم الإعجاز فيه كله من ألفه إلى يائه كأنه سبيكة واحدة ، ولا يكاد يوجد بين أجزائه تفكك ولا تخاذل ، كأنه حلقة مفرغة ، أو كأنه سمط وحيد ، وعقد فريد ، يأخذ بالأبصار ، نظمت حروفه وكلماته ، ونسقت جمله وآياته ، وجاء آخره مساوقًا لأوله ، وبدا أوله مواتيًا لآخره.

وهنا نتساءل: كيف اتسق للقرآن هذا التأليف المعجز وكيف استقام له هذا التناسق المدهش؛ على حين أنه لم يتنزل جملة واحدة ، بل تنزل آحادًا مفرقة تفرق الوقائع والحوادث في أكثر من عشرين عامًا؟

الجواب: أننا نلمح هنا سرا جديدا من أسرار الإعجاز، ونشهد سمة فذة من سمات الربوبية، ونقرأ دليلًا ساطعًا على مصدر القرآن، وأنه كلام الواحد الديان وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا.

وإلا فحدثني بربك كيف تستطيع أنت، أم كيف يستطيع الخلق جميعًا: أن يأتوا بكتاب محكم الاتصال والترابط ، متين النسج والسرد ، متآلف البدايات والنهايات، مع خضوعه في التأليف لعوامل خارجة عن مقدور البشر ، وهي وقائع الزمن وأحداثه التي يجيء كل جزء من أجزاء هذا الكتاب تبعًا لها، ومتحدثًا عنها؛ سببًا بعد سبب ، وداعية إثر داعية ، مع اختلاف ما بين هذه الدواعي ، وتغاير ما بين تلك الأسباب ، ومع تراخي زمان هذا التأليف ، وتطاول آماد هذه النجوم إلى أكثر من عشرين عامًا؟!

لا ريب أن هذا الانفصال الزماني ، وذاك الاختلاف الملحوظ بين هاتيك الدواعي؛ يستلزمان في مجرى العادة: التفكك والانحلال ، ولا يدعان مجالًا للارتباط والاتصال بين نجوم هذا الكلام.

أما القرآن الكريم فقد خرق العادة في هذه الناحية أيضًا : نزل مفرقًا منجمًا ، ولكنه تم مترابطًا محكمًا. وتفرقت نجومه تفرق الأسباب ، ولكن اجتمع نظمه اجتماع شمل الأحباب.

ولم يتكامل نزوله إلا بعد عشرين عامًا ولكن تكامل انسجامه بداية وختامًا “، انتهى .

” مناهل العرفان في علوم القرآن ” (1/ 60 – 61).

فالحاصل:

أن لترتيب القرآن أسرارًا يبحثها العلماء ، ولا يشبه في هذا الكتب المعاصرة ، بل هو نسيج وحده ، وهو كلام رب العالمين ، سبحانه وبحمده.

فلا تنتظر من القرآن أن تجري عليه مواضعات الناس، وطرائقهم في الكتابة والبيان؛ وإن كانوا بلغاء، فصحاء، فللقرآن من الخاصة ما ليس لغيره من الكلام كله، نثره ونظامه.

والله أعلم

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب