الحمد لله.
تفسير القرآن ليس بالأمر الهين، ولا يجوز القول فيه بغير علم، وقد جاء التحذير الشديد عن هذا الأمر.
فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَالَ فِي القُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ الترمذي (2950) وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فمن قال في القرآن برأيه فقد تكلف ما لا علم له به، وسلك غير ما أمر به. فلو أنه أصاب المعنى في نفس الأمر لكان قد أخطأ؛ لأنه لم يأت الأمر من بابه" انتهى من "مقدمة في أصول التفسير" (ص47).
الأمر الآخر: أنّ تفسير الآية لا بد أن يكون في سياقها الذي ذكرت فيه، ويستصحب فيه سبب النزول، وهذا من أبرز ما يضبط التفسير، لئلا تُفسر الآية بغير ما أنزلت له، وإن كان المعنى اللغوي يحتمل المعنى، فهذا وحده لا يكفي إذا كان يخالف ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسيره، أو تفسره الصحابة الكرام، أو كان السياق يأباه.
قال شيخ الإسلام رحمه الله:
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: " السياق يرشدُ إلى تبيين المجمل، وتعيين المحتمل، والقطع بعدم احتمال غير المراد، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، وتنوع الدلالة، وهو من أعظم القرائن الدالَّة على مراد المتكلم، فمن أهمله غلط في نظره، وغالط في مناظرته. فانظر إلى قوله تعالى: (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ)، كيف تجدُ سياقَه يدُلُّ على أنه الذليلُ الحقير " انتهى من "بدائع الفوائد" (4/1315).
وكذلك يتبين غلط من فسر الحفدة في قوله تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً بأن معنى الحفدة في الآية الأعوان والخدم، مع أنّ هذا المعنى من معاني الحفدة في اللغة، وذلك أن السياق لا يحتمله، وفي هذه الآية الكريمة قرينة دالة على أن الحفدة أولاد الأولاد؛ لأن قوله: (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً) دليل ظاهر على اشتراك البنين والحفدة في كونهم من أزواجهم، وذلك دليل على أنهم كلهم من أولاد أزواجهم. انظر: "أضواء البيان" (3/382).
ثانياً:
الآية الكريمة التي ذكرت نزلت في معرض الحديث عن النفقة الواجبة للمطلقة حال عدة الطلاق والحمل والرضاع، قال الله تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى * لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا الطلاق/6-7.
وقد فسرها أئمة التفسير الذين أخذوا العلم من التابعين، وهم أعلم بالتفسير حيث تلقوه من الصحابة رضي الله عنهم، في هذا السياق.
قال الطبري رحمه الله في تفسير لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ: "لينفق الذي بانت منه امرأته إذا كان ذا سعة من المال، وغنى من سعة ماله وغناه على امرأته البائنة في أجر رضاع ولده منها، وعلى ولده الصغير»" ونقل كلام التابعين في هذه الموطن. انظر: "تفسير الطبري" (23/ 68).
وقال القرطبي رحمه الله: "لينفق أي لينفق الزوج على زوجته وعلى ولده الصغير على قدر وسعه حتى يوسع عليهما إذا كان موسعا عليه. ومن كان فقيرا فعلى قدر ذلك. فتقدر النفقة بحسب الحالة من المنفق والحاجة من المنفق عليه بالاجتهاد على مجرى حياة العادة" انتهى من "تفسير القرطبي" (18/ 170).
ثالثاً:
المعنى المذكور في السؤال معنى لطيف وجميل، ولكن لا يستقيم تفسيرا للآية؛ لأنّ الآية تتحدث عن النفقة، والمعني الشرعي واللغوي للنفقة يختص بالمال وتوابعه، والمعاني المذكورة تندرج في عموم معنى البذل وصناعة المعروف. فسياق الآية الكريمة لا يحتمل هذا التفسير، حتى مع إعمال قاعدة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
والله أعلم.
تعليق