الحمد لله.
قول الله تعالى: ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) البقرة/29.
فهذه الآية تدل على أن الله تعالى قد خلق الأرض بجميع ما فيها - ويدخل في هذا العموم الجبال – قبل خلق السماء، كما يفهم من أداة العطف ( ثُمَّ ) التي تدل على الترتيب.
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:
" هذه الآية تدل على أن خلق الأرض قبل خلق السماء، بدليل لفظة ( ثُمَّ) التي هي للترتيب والانفصال " انتهى من "أضواء البيان" (7/127).
وقد ورد التصريح بخلق الجبال قبل السماء في قوله تعالى:
( قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) فصلت/9 – 12.
لكن ورد ما يشير إلى أن خلق الجبال متأخر، كان بعد خلق السماء، وهذا في قوله تعالى:
( أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ) النازاعات/27 – 33.
فتشير الآية إلى أن الجبال خلقت بعد السماء، كما تدل لفظة: ( بَعْدَ ذَلِكَ ).
وقد بحث هذا الإشكال بين ظواهر هذه النصوص قديما، من عهد السلف الصالح.
ورد عند البخاري كما في "الصحيح – مع شرحه الفتح" (8/555):
" وَقَالَ الْمِنْهَالُ عَنْ سَعِيدٍ، قَالَ: ( قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنِّي أَجِدُ فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ قَالَ: ( فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ )، ( وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ).
( وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا )، ( رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ) فَقَدْ كَتَمُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
وَقَالَ: ( أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ) إِلَى قَوْلِهِ: ( دَحَاهَا )، فَذَكَرَ خَلْقَ السَّمَاءِ قَبْلَ خَلْقِ الْأَرْضِ، ثُمَّ قَالَ ( أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ) إِلَى ( طَائِعِينَ ) فَذَكَرَ فِي هَذِهِ خَلْقَ الْأَرْضِ قَبْلَ السَّمَاءِ…
[ قال ابن عباس:] وَخَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاءَ، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ، ثُمَّ دَحَا الْأَرْضَ، وَدَحْوُهَا أَنْ أَخْرَجَ مِنْهَا الْمَاءَ وَالْمَرْعَى، وَخَلَقَ الْجِبَالَ وَالْجِمَالَ وَالْآكَامَ، وَمَا بَيْنَهُمَا فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ( دَحَاهَا )، وَقَوْلُهُ ( خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ )، فَجُعِلَتِ الْأَرْضُ وَمَا فِيهَا مِنْ شَيْءٍ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، وَخُلِقَتِ السَّمَاوَاتُ فِي يَوْمَيْنِ … " انتهى.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" وحاصل جواب ابن عباس ... أنه بدأ خلق الأرض في يومين غير مدحوة، ثم خلق السماء فسواها في يومين، ثم دحا الأرض بعد ذلك، وجعل فيها الرواسي وغيرها في يومين، فتلك أربعة أيام للأرض.
فهذا الذي جمع به ابن عباس بين قوله تعالى في هذه الآية وبين قوله: ( وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ) هو المعتمد.
وأما ما أخرجه عبد الرزاق من طريق أبي سعيد، عن عكرمة، عن ابن عباس رفعه قال: ( خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمِ الْأَحَدِ، وَفِي يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ الْجِبَالَ وشقق الْأَنْهَارَ، وقدر في كل أرض قُوتَهَا يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَيَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ ( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ ) وتلا الآية إلى قوله: ( فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ) قال: فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ وَيَوْمِ الْجُمُعَةِ ) الحديث = فهو ضعيف، لضعف أبي سعيد وهو البقال " انتهى. "فتح الباري" لابن حجر (7/558).
وجواب ابن عباس قاطع بأن الأرض خلقت قبل السماء، وهذا الذي عليه جماهير المفسّرين.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" فهذه [ آية سورة البقرة ] وهذه [ آية سورة فصلت ]: دالتان على أن الأرض خلقت قبل السماء، وهذا ما لا أعلم فيه نزاعا بين العلماء إلا ما نقله ابن جرير عن قتادة: أنه زعم أن السماء خلقت قبل الأرض، وقد توقف في ذلك القرطبي … " انتهى من "تفسير ابن كثير" (1/ 215).
لكن تفسير ابن عباس وجمهور أهل العلم لا يزيل الإشكال الوارد بخصوص الجبال، فآية "سورة فصلت" تنص على أن الجبال جعلت قبل السماء، وجواب ابن عباس يشير إلى أنها بعد السماء، حيث قال رضي الله عنه: ( ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاءَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ، ثُمَّ دَحَا الْأَرْضَ، وَدَحْوُهَا أَنْ أَخْرَجَ مِنْهَا الْمَاءَ وَالْمَرْعَى، وَخَلَقَ الْجِبَالَ وَالْجِمَالَ وَالْآكَامَ ).
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:
" وهذا الجمع الذي جمع به ابن عباس بين هاتين الآيتين واضح لا إشكال فيه، مفهوم من ظاهر القرآن العظيم، إلا أنه يرد عليه إشكال من آية البقرة هذه.
وإيضاحه: أن ابن عباس جمع بأن خلق الأرض قبل خلق السماء، ودحوها بما فيها بعد خلق السماء، وفي هذه الآية التصريح بأن جميع ما في الأرض مخلوق قبل خلق السماء؛ لأنه قال فيها: ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ ) الآية.
وقد مكثت زمنا طويلا أفكر في حل هذا الإِشكال، حتى هداني الله إليه ذات يوم ففهمته من القرآن العظيم.
وإيضاحه:
أن هذا الإِشكال مرفوع من وجهين، كل منهما تدل عليه آية من القرآن:
الأول: أن المراد بخلق ما في الأرض جميعًا قبل خلق السماء: الخلق اللغوي الذي هو التقدير، لا الخلق بالفعل الذي هو الإِبراز من العدم إلى الوجود. والعرب تسمي التقدير خلقًا، ومنه قول زهير:
ولأنت تَفْري ما خلقت … وبعض القوم يخلُقُ ثم لا يَفْري
والدليل على أن المراد بهذا الخلق التقدير: أنه تعالى نص على ذلك في سورة فصلت، حيث قال: وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا، ثم قال: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ الآية.
الوجه الثاني: أنه لما خلق الأرض غير مدحوة، وهي أصل لكل ما فيها، كان كل ما فيها كأنه خلق بالفعل؛ لوجود أصله فعلًا.
والدليل من القرآن على أن وجود الأصل يمكن به إطلاق الخلق على الفرع وإن لم يكن موجودًا بالفعل، قولُه تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ الآية؛ فقوله: خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ أي بخلقنا وتصويرنا لأبيكم آدم الذي هو أصلكم.
وجمع بعض العلماء بأن معنى قوله: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أي مع ذلك، فلفظة (بعد) بمعنى مع. ونظيره قوله تعالى: عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13)، وعليه فلا إشكال في الآية.
ويستأنس لهذا القول بالقراءة الشاذة، وبها قرأ مجاهد: (والأرض مع ذلك دحاها).
وجمع بعضهم بأوجه ضعيفة؛ لأنها مبنية على أن خلق السماء قبل الأرض، وهو خلاف التحقيق.
منها: أن (ثم) بمعنى الواو.
ومنها: أنها للترتيب الذكري، كقوله تعالى: ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا الآية " انتهى. "أضواء البيان" (7 / 127 - 129).
وقال ابن الأنباري رحمه الله تعالى:
" (بَعْد): حرف من الأضداد؛ يكون بمعنى التأخير، وهو الّذي يفهمه النّاس، ولا يحتاج مع شهرته إِلى ذكر شواهد له.
ويكون بمعنى " قبل "، قال الله عز وجل: ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ )، فمعناه عند بعض النّاس من قبل الذِّكْر، لأنّ الذِّكر القرآن...
وقال الله عز وجل: ( وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا )، فمعناه: والأرض قبل ذلك دحاها، لأنّ الله خلق الأَرض قبل السماء. والدليل على هذا قوله: ( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ )...
ويجوز أَن يكون معنى الآية: والأَرض مع ذلك دحاها، كما قال الله عز وجل: ( عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ )، أراد: مع ذلك " انتهى. "الأضداد" (ص 107 - 110).
وقال الشيخ عبد الرحمن المعلمي رحمه الله تعالى:
" ( وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ) أي ثبَّتها، فلا ينافي أنه قد سبق إيجادُها. وهذا أولى من إنكار الترتيب، والله أعلم " انتهى. "تفسير آيات خلق الأرض والسماوات - ضمن آثار المعلمي " (7/ 292).
والله أعلم.
تعليق