الحمد لله.
أولا:
سبق في الموقع بيان أنه لا يصح شيء من الأخبار الواردة في فضل ليلة النصف من شعبان، ومن ضمنها هذا الخبر، وهذا في جواب السؤال رقم (49678).
لكن قد ورد ما هو أولى منه في التحذير من المشاحنة، وهو ما رواه الإمام مالك في"الموطأ" (2 / 79 -80)، والإمام مسلم (2565) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ( تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا؛ إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا ).
وقد سبق بيان معناه في جواب السؤال رقم (262113).
والشحناء: هي العداوة والبغضاء بين الناس.
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى:
" وأمّا قوله في هذا الحديث (شحناءُ): فالشّحناء، العداوة " انتهى. "التمهيد" (8 / 299).
ثانيا:
المشاحن المَلُوم المُتوعَّد بعدم المغفرة هو الذي يعادي إخوانه المسلمين بغير وجه حق، وإنما بسبب هوى النفس وبغيها.
جاء في "شرح المشكاة للطيبي" (4 / 1238):
" قوله: ( مشاحن )؛ المشاحن: المعادي. والشحناء: العداوة.
لعل المراد: البغضاء التي تقع بين المسلمين مِنْ قِبَل النفس الأمارة بالسوء، لا للدين، فلا يأمن أحدهم أذى صاحبه من يده ولسانه " انتهى.
وعدم المسامحة: إن كنت تقصدين به: هجرها وعدم الحديث معها؛ فلا حرج على من هجر أخاه المسلم، إذا كان يؤذيه ويبغي عليه؛ لدفع ضرره، ولا يَظهر أن يشمله وعيد "المشاحن" في مثل هذه الحال؛ لأن القاعدة الشرعية: أن الضرر يزال.
قال ابن هبيرة رحمه الله تعالى:
" فدل هذا الحديثُ الذي نحن في تفسيره: أن الله تعالى يغفر في كل اثنين وخميس للعباد، إلا للمتشاحنين.
والمتشاحنان: أن يكون كل منهما ذا شحناء، فلا يتناول هذا النطق أن يكون رجلٌ يَخاف شر رجل، ولا يأمن السوء من جهته، وذلك الآخر غيرُ خائف منه، كما يخاف الآخر؛ فإن ذلك الخائف لا يزول استيحاشه مما يخافه إلا بوجود أمنه منه؛ فلا يكون الخائف أحد المتشاحنين...
فأما المتشاحنان الذي ينصرف إليهما إرجاء الغفران؛ فإنهما قد يكونان متحاسدين، أو متكبرين، أو باغيين، أو متقاطعين، أو متنافسين، أو متماثلين، أو متقاربين.
فليحذر المؤمن من هذه الحالة، وليغفرها لأخيه خائفا أن يفوته - بشحناء أخيه - : ود ومحبة الله له، وليبادر الفيئة منها؛ فإن من استبدل من محبة الله ومغفرته، شحناء أخيه؛ لممن يشمله قول الله عز وجل: ( بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ) " انتهى. "الإفصاح" (8 / 77 — 79).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" قال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه لا يجوز الهجران فوق ثلاث، إلا لمن خاف من مكالمته ما يفسد عليه دينه، أو يدخل منه على نفسه أو دنياه مضرة، فإن كان كذلك: جاز؛ ورب هجر جميل خير من مخالطة مؤذية " انتهى . "فتح الباري" (10 / 496).
وسُئل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى:
" تقول: هناك امرأة تسكن معنا في البيت، وأنا على خلاف معها، وذلك بسبب أنها تسعى إلى تشويه صورتي عند الجيران بكثرة حديثها، وقد نصحتها، وفي الأخير هجرتها؛ وذلك لما يلحقني أنا وأطفالي منها، وأنا ولله الحمد ملتزمة بأمور ديني، فبماذا تنصحونني؟ جزاكم الله خيرًا.
الجواب: إذا كانت تفعل ضدك ما يضرك، ولم تقبل النصيحة؛ فلا بأس بهجرها لظلمها.
أما إذا كنت لا تعلمين ذلك، إنما ذلك أوهام وظنون؛ فلا يجوز لك الهجر، وعليك التسامح والدعاء لها بالهداية، أما إذا كنت تعلمين أنها تسبك، أو تغتابك يقينا، وتشوه سمعتك، ولم تنتصح، ولم تقبل منك؛ فإنها تستحق أن تهجر " انتهى من "موقع الشيخ".
وإذا اكتفيتِ بالسلام عليها عند اللقاء، فقد قمت بما عليك من حق الأخوة، فلا حرج عليك في الامتناع من الكلام، ما دامت لا تكف عن الأذى.
قال ابن رشد رحمه الله تعالى:
" الرجل يهاجر الرجل، ثم يبدو له فيسلم عليه، من غير أن يكلمه في غير ذلك، وهو مجتنب لكلامه؛ هل تراه قد خرج من الشحناء؟
قال -ابن القاسم -: سمعت مالكا يقول: إن كان مؤذيا له، فقد برئ من الشحناء.
قال ابن القاسم: وأرى إن كان غير مؤذ له، أنه غير بريء من الشحناء.
قلت: فهل ترى شهادته غير جائزة عليه، باعتزاله وهو غير مؤذ له؟
فقال: لا تقبل شهادته عليه.
قال الإمام القاضي: معنى قول مالك وابن القاسم أن المُسَلِّم يخرج من الشحناء، إن كان المسلَّم عليه مؤذيا للذي ابتدأ بالسلام، ولم يضر الذي ابتدأ بالسلام تركُه لكلام المؤذي.
وإن كان المسلَّم عليه غير مؤذ للذي ابتدأ بالسلام؛ فلا يُخرج الذي ابتدأ بالسلام سلامُه من الشحناء، حتى يكلمه؛ إذ لا عذر له في ترك كلامه " انتهى. "البيان والتحصيل" (10 / 60).
فتلخص من هذه الأقوال لأهل العلم؛ أن هذا الهجر مشروع لرد الاذى، فإذا زال زالت مشروعيته، لحديث أَبِي أَيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ، يَلْتَقِيَانِ: فَيَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ ) رواه البخاري (6237) ومسلم (2560).
وعلى هذا؛ فلا يصح أن تنوي هجر هذه المسلمة إلى الممات، بل لك أن تهجريها ما دامت على حالها من الأذى والبغي، بنية دفع الضرر، وتنوي أنها إذا تابت وتركت البغي والأذى؛ أن تكلميها وتكُفِّي هجرك.
وهذا كله من باب الرخصة، وجهة ما يسوغ، ويجوز للمسلم فعله، للحاجة، أو العذر.
وأما من حيث الأفضل والأحسن والعزيمة: فهو أن تتغافلي عن هذا الأذى الحاصل من ضرتك، وتصبري، وتدفعي أذاها بالحسنى، فمن سلك هذا السبيل، فهو موعود بالخير والنصر.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: ( أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ لِي قَرَابَةً؛ أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ؟!
فَقَالَ: لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ؛ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ ) رواه مسلم (2558).
قال النووي رحمه الله تعالى:
" (تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ ): الْمَلُّ: الرمادُ الحارُّ...
ومعناه: كأنما تطعمهم الرماد الحار؛ وهو تشبيه لما يلحقهم من الألم، بما يلحق آكل الرماد الحار من الألم.
ولا شيء على هذا المحسن، بل ينالهم الإثم العظيم في قطيعته، وإدخالهم الأذى عليه... " انتهى. "شرح صحيح مسلم" (16 / 115).
وأما إن كنت تقصدين بعدم المسامحة، هو عدم العفو، ومطالبتك بحقك منها يوم القيامة، فهذا لا يعد من المشاحنة؛ لأن العفو حقٌّ للمظلوم؛ فإن شاء عفا، وإن شاء امتنع، وطالب بحقه.
لكن الأفضل للمسلم أن يعفو عن إخوانه، ما أمكنه؛ لتدركه رحمة الله وعفوه؛ فالجزاء من جنس العمل، وجزاء الإحسان الإحسان، وقد سبق بيان هذا في جواب السؤال رقم (171751).
والله أعلم.
تعليق