الحمد لله.
لا تعارض بين إثبات العلو لله تعالى، وبين أنه يطوي السموات يوم القيامة بيمينه، كما قال: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ الزمر/67.
وذلك أن العلو يعني: أن الله تعالى فوق كل شيء، فوق السموات، وفوق العرش، وفوق كل ما هو مخلوق، علو قهر وقدر، وعلو ذات، فهو العلي الأعلى كما نطق كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وأجمع عليه سلف الأمة.
وما ورد من النصوص من أن الله في السماء، كقوله تعالى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ الملك/16، وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلاَ تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ رواه البخاري (4351)، ومسلم (1064) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
وفيما روى مسلم (537) عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ في شأن ضربه لجاريته، قال: " فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَظَّمَ ذَلِكَ عَلَيَّ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا أُعْتِقُهَا قَالَ: ائْتِنِي بِهَا ، فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَقَالَ لَهَا: أَيْنَ اللَّهُ؟ قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ، قَالَ: مَنْ أَنَا؟ قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ .
فالمراد بالسماء العلو، لأن كل ما علا فهو سماء.
أو المراد: "على السماء"، لأن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض، كقوله تعالى: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه: 71]، يَعْنِي عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ، وَقَالَ: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ [التوبة: 2]، يَعْنِي عَلَى الْأَرْضِ.
ولا يقول أحد من أهل السنة إن الله داخل السموات السبع، أو يحيط به شيء من خلقه، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
قال أبو الحسن الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر، ص 130 فيما أجمع عليه السنة: "وأنه تعالى فوق سماواته على عرشه دون أرضه، وقد دل على ذلك بقوله: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ ، وقال: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ.
وقال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى، وليس استواؤه على العرش استيلاء كما قال أهل القدر؛ لأنه عز وجل لم يزل مستولياً على كل شيء" انتهى.
وقال البيهقي في الاعتقاد، ص 112: "بَابُ الْقَوْلِ فِي الِاسْتِوَاءِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5].
وَالْعَرْشُ هُوَ السَّرِيرُ الْمَشْهُورُ فِيمَا بَيْنَ الْعُقلَاءِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ [هود: 7] ... وَقَالَ: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النحل: 50]، وَقَالَ: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر: 10]، إِلَى سَائِرِ مَا وَرَدَ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَقَالَ: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك: 16].
وَأَرَادَ: مَنْ فَوْقَ السَّمَاءِ، كَمَا قَالَ: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه: 71]، يَعْنِي عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ، وَقَالَ: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ [التوبة: 2]، يَعْنِي عَلَى الْأَرْضِ.
وَكُلُّ مَا عَلَا فَهُوَ سَمَاءٌ، وَالْعَرْشُ أَعْلَى السَّمَاوَاتِ.
فَمَعْنَى الْآيَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ: أَأَمِنْتُمْ مَنْ عَلَى الْعَرْشِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ" انتهى.
وقال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله: "وأما قوله تعالى: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ) الملك/16، فمعناه: مَن على السماء يعني: على العرش.
وقد يكون "في" بمعنى "على"، ألا ترى إلى قوله تعالى: (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) التوبة/2 أي: على الأرض، وكذلك قوله: (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) طه/71" انتهى من "التمهيد" (7/ 130).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "قال العلماء: الجواب أن نسلك أحد طريقين:
1 - فإما أن نجعل السماء بمعني العلو، والسماء معني العلو وارد في اللغة، بل في القرآن, قال تعالي: أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا [الرعد: 17]، والمراد بالسماء العلو، لأن الماء ينزل من السحاب لا من السماء التي هي السقف المحفوظ، والسحاب في العلو بين السماء والأرض، كما قال الله تعالي: الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [البقرة: 164].
فيكون معني مَنْ فِي السَّمَاءِ، أي: من في العلو.
ولا يوجد إشكال بعد هذا، فهو في العلو. ليس يحاذيه شيء، ولا يكون فوقه شيء.
2 - أو نجعل (في) بمعني (علي)، ونجعل السماء هي السقف المحفوظ المرفوع، يعني: الأجرام السماوية، وتأتي (في) بمعني (علي) في اللغة العربية، بل في القرآن الكريم، قال فرعون لقومه السحرة الذين آمنوا: وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه: 71]، أي: على جذوع النخل.
فيكون معني مَنْ فِي السَّمَاءِ، أي: من على السماء" انتهى من "شرح الواسطية" (1/ 398).
وإذا تبين هذا، فسواء وجدت السموات، أو طواها الله سبحانه، فهو فوق كل شيء، وهو مستغنٍ عن السموات والعرش.
قال الطحاوي رحمه الله في عقيدته، ص54: " والعرش والكرسي حق، وهو مستغن عن العرش وما دونه، محيط بكل شيء وفوقه" انتهى.
والحاصل:
أن شبهة التعارض إنما ترد على من ظن أن الله تعالى داخل السموات، أو أنه محتاج إليها في علوه.
وهو سبحانه منزه عن الأمرين، فلا يحيط به شيء، ولا يحتاج إلى شيء، تبارك وتعالى وتقدس.
واعلم أنه ليس وراء القول بالعلو، إلا قولان باطلان: أن الله في كل مكان كما تقول الجهمية، أو أن الله لا داخل العالم ولا خارجه، كما تقوله الأشاعرة.
وقد ختم الذهبي رحمه الله كتابه "العلو للعلي الغفار" بقوله:
" وَالله فَوق عَرْشه، كَمَا أجمع عَلَيْهِ الصَّدْر الأول، وَنَقله عَنْهُم الْأَئِمَّة، وَقَالُوا ذَلِك رادين على الْجَهْمِية الْقَائِلين بِأَنَّهُ فِي كل مَكَان، محتجين بقوله: وَهُوَ مَعكُمْ.
فهذان الْقَوْلَانِ هما اللَّذَان كَانَا فِي زمن التَّابِعين وتابعيهم، وهما قَولَانِ معقولان فِي الْجُمْلَة.
فَأَما القَوْل الثَّالِث الْمُتَوَلد أخيرا؛ من أَنه تَعَالَى لَيْسَ فِي الْأَمْكِنَة، وَلَا خَارِجا عَنْهَا، وَلَا فَوق عَرْشه، وَلَا هُوَ مُتَّصِل بالخلق، وَلَا بمنفصل عَنْهُم، وَلَا ذَاته المقدسة متحيزة، وَلَا بَائِنَة عَن مخلوقاته، وَلَا فِي الْجِهَات، وَلَا خَارِجا عَن الْجِهَات، وَلَا، وَلَا؛ فَهَذَا شَيْء لَا يُعقَل، وَلَا يُفهم، مَعَ مَا فِيهِ من مُخَالفَة الْآيَات وَالْأَخْبَار.
ففر بِدينِك، وَإِيَّاك وآراء الْمُتَكَلِّمين، وآمِنْ بِاللَّه، وَمَا جَاءَ عَن الله، على مُرَاد الله، وفوض أَمرك إِلَى الله، وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه" انتهى من "العلو" ص 267.
والله أعلم.
تعليق