الحمد لله.
قال الله تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ المائدة/ 48.
والكتاب هنا هو القرآن العظيم، وهو مصدق لما تقدمه من الكتب، ومهيمن وحاكم عليها.
وليس المراد بقوله تعالى: ( بين يديه ): ما ذكره السائل، من أنه بين أيدي النصارى، لأنه لو كان كذلك، لقال: لما بين أيديهم.
وإنما الضمير في قوله: ( يديه ) يعود على نفس القرآن.
وقوله تعالى: مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ: أي لما قبله. كذا قاله عامة أهل العلم بالتفسير واللغة هنا.
وينظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة (361)، "مجاز القرآن" لأبي عبيدة (1/48)، وغيرهما.
وتصديق القرآن لما بين يديه من الكتب المنزلة، ورد في مواضع من القرآن:
قال الله تعالى: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ البقرة/97.
وقال تعالى: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ آل عمران/3.
وقال تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا المائدة/48
وهذا التصديق هو في الأمر بعبادة الله، واتباع رسله، واتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وليس فيما حرفه أهلها وأدخلوه فيها من الباطل والكفر والشرك.
قال الطبري رحمه الله في تفسيره (2/ 392):
" يعني جل ثناؤه بقوله: (مصدقا لما بين يديه) ، القرآن. ونصب "مصدقا" على القطع من"الهاء" التي في قوله: (نزله على قلبك).
فمعنى الكلام: فإن جبريل نزل القرآن على قلبك، يا محمد، مصدقا لما بين يدي القرآن.
يعني بذلك: مصدقا لما سلف من كتب الله أمامه، ونزلت على رسله الذين كانوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم.
وتصديقه إياها، موافقة معانيه معانيها في الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله، وهي تصدقه" انتهى.
وقال في (6/160): " يعني بذلك القرآن، أنه مصدّق لما كان قبله من كتب الله التي أنزلها على أنبيائه ورسله، ومحقق ما جاءت به رُسل الله من عنده؛ لأن مُنْزِل جميع ذلك واحد، فلا يكون فيه اختلاف، ولو كان من عند غيره كان فيه اختلاف كثيرا" انتهى.
وقال في (10/377): " يقول تعالى ذكره: أنزلنا إليك، يا محمد، "الكتاب"، وهو القرآن الذى أنزله عليه.
ويعني بقوله: "بالحق": بالصدق، ولا كذب فيه، ولا شك أنه من عند الله.
"مصدقًا لما بين يديه من الكتاب"، يقول: أنزلناه بتصديق ما قبله من كتب الله التي أنزلها إلى أنبيائه.
"ومهيمنًا عليه"، يقول: أنزلنا الكتاب الذي أنزلناه إليك، يا محمد، مصدّقًا للكتب قبله، وشهيدًا عليها أنها حق من عند الله، أمينًا عليها، حافظا لها ".
ثم روى عن ابن عباس قوله: "القرآن، شاهد على التوراة والإنجيل، مصدقًا لهما.
"ومهيمنًا عليه"، يعني: أمينًا عليه، يحكم على ما كان قبله من الكتب ".
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسيره (2/ 5): " وقوله: مصدقا لما بين يديه أي: من الكتب المنزلة قبله من السماء على عباد الله الأنبياء، فهي تصدقه بما أخبرت به، وبشرت في قديم الزمان، وهو يصدقها؛ لأنه طابق ما أخبرت به وبشرت، من الوعد من الله بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم، وإنزال القرآن العظيم عليه" انتهى.
وقال السيد رشيد رضا في "تفسير المنار" (1/ 324): " (مصدقا لما بين يديه) أي: حال كونه موافقا للكتب التي تقدمته، في الأصول التي تدعو إليها؛ من التوحيد واتباع الحق والعمل الصالح، ومطابقا لما فيها من البشارات بالنبي الذي يجيء من أبناء إسماعيل" انتهى.
وقال في (3/ 129): " (مصدقا لما بين يديه) أي مبينا صدق ما تقدمه من الكتب المنزلة على الأنبياء، أي كونها وحيا من الله - تعالى -، وذلك أَنْ أثبت الوحيَ، وذكر أنه - تعالى - أرسل رسلا أوحى إليهم.
فهذا تصديق إجمالي لأصل الوحي، لا يتضمن تصديق ما عند الأمم التي تنتمي إلى أولئك الأنبياء من الكتب بأعيانها، ومسائلها.
ومثاله: تصديقنا لنبينا - صلى الله عليه وسلم - في جميع ما أخبر به، فهو لا يستلزم تصديق كل ما في كتب الحديث المروية عنه، بل ما ثبت منها عندنا فقط " انتهى.
وقال ابن عاشور في تفسيره (6/ 221): " وقد أشارت الآية إلى حالتي القرآن بالنسبة لما قبله من الكتب:
فهو مؤيد لبعض ما في الشرائع، مقرر له؛ من كل حكم كانت مصلحته كلية، لم تختلف مصلحته باختلاف الأمم والأزمان.
وهو بهذا الوصف مصدق، أي محقق ومقرر.
وهو أيضا: مبطل لبعض ما في الشرائع السالفة، وناسخ لأحكام كثيرة؛ من كل ما كانت مصالحه جزئية مؤقتة، مراعى فيها أحوال أقوام خاصة " انتهى.
والحاصل:
أن القرآن مصدق، ومهيمن؛ فيصدق ما فيها من الحق، ويبين ويبطل ما فيها من الباطل.
وقد أخبر الله عن الإنجيل أنه مصدق للتوراة، كما قال تعالى: وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ آل عمران/50
وقال: وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ المائدة/46.
ولا شك أنه لا يصدق ما في التوراة من نسبة القبائح إلى الله وإلى رسله، بل هو مصدق لما فيها من الحق فقط.
فكذلك القرآن، يصدق ما في كتبهم من الحق، ويبطل ما فيها من الباطل.
وقد جاءت آية المائدة بعد ثناء الله على التوراة، وبيان ما كتبه الله فيها من القصاص، كما قال: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ * وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ المائدة/44، 45.
والتوراة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان فيها ذلك، وكان فيها رجم الزاني، كما كان فيها تحريف وضلال، فلا يقال: إن القرآن مصدق لجميع ما كان في أيديهم عند نزول الآية، بل هو مصدق لما فيها من الحق، مبطل لما فيها من الباطل.
وهذا من فوائد الجمع بين الوصفين: مصدقا، ومهيمنا.
ولهذا اتفقت كلمة المفسرين على أن المراد تصديق أشياء معينة، كالتوحيد، والإيمان بالرسل، والبشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم.
والله أعلم.
تعليق