من حكمة الله تعالى أن جعل الأنبياء بشرا يأكلون ويشربون، ونزههم عن الأعراض القادحة في حقهم؛ كالبرص، والجذام؛ ليكونوا قدوة للبشرية ، ومبينين للأحكام، ولكن هل يجوز في حقهم نظرا لبشريتهم خروج الأحداث كالريح مثلا لغرض تبيين الحكم الشرعي في تلك المسائل؟
الحمد لله.
أولًا :
بشرية الأنبياء، وجواز المرض والجوع والحدث عليهم: مما وقع عليه إجماع المسلمين ، وهو نص القرآن المجيد ، قال تعالى : مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ المائدة/ 75 .
وقال تعالى : قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ إبراهيم/ 11 .
وقال تعالى : قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ فصلت/6 .
قال ابن تيمية : " والأنبياء يجوز عليهم المرض والجوع والنسيان ونحو ذلك؛ بالإجماع " انتهى من "الرد على البكري" (1/ 306).
"فالأنبياء إنما هم بشر كسائر البشر، يحصل لهم ما يحصل للبشر، فيمرضون ويجوعون وينسون ونحو ذلك، قال تعالى: ( قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) إبراهيم/11، وقال تعالى عن أيوب عليه السلام: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ص/41، وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ الأنبياء/83.
وأخبر الله عز وجل أن للأنبياء أزواجاً وذرية، كما قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً الرعد/38.
بل إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ الفرقان/20.
وأخبر الله عز وجل عن آدم عليه السلام أنه نسي، فقال تعالى: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا طه/115، وقال تعالى عن موسى عليه السلام وغلامه فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا الكهف:/61.
فكل هذه الصفات تبين بشرية الأنبياء، وأنهم يجوز عليهم ما يجوز على سائر البشر، وإنما يوحى إليهم كما قال تعالى على لسان نبيه: ( قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ ) الكهف/ 110 .
ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما أنا بشر مثلكم أذكر كما تذكرون وأنسى كما تنسون رواه مسلم (572) "انتهى من "الموسوعة العقدية" (4/ 39).
ثانيًا :
لا شك أن من " مقتضى كون الرسل بشراً، أن يتصفوا بالصفات التي لا تنفك البشرية عنها ، وهي أنهم : يأكلون ويشربون وينامون ويتزوجون ويولد لهم ، وأنهم يحتاجون لما يحتاج إليه البشر من الطعام والشراب ، ويُحدِثونَ كما يحدث البشر ، لأنّ ذلك من لوازم الطعام والشراب ، وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاّ رِجَالاً نّوحِيَ إِلَيْهِمْ فَاسْئَلُوَاْ أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاّ يَأْكُلُونَ الطّعَامَ وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ الأنبياء/7 - 8.
ومن ذلك أنهم ولدوا كما ولد البشر ، لهم آباء وأمهات ، وأعمام وعمات ، وأخوال وخالات ، يتزوجون ويولد لهم ، وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرّيّةً الرعد/38.
ومن مقتضى ذلك : أن يحتاجوا إلى الحدث، من بول ، أو غائط ، أو نحو ذلك.
وذكر ذلك في أحاديث الطهارة، وأبواب الحدث، أشهر من أن يذكر هنا .
ومن ذلك : ما رواه مسلم في صحيحه (271) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَبَرَّزُ لِحَاجَتِهِ، فَآتِيهِ بِالْمَاءِ، فَيَتَغَسَّلُ بِهِ".
وفي صحيح البخاري (156): عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه : "أَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الغَائِطَ فَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَهُ بِثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ، فَوَجَدْتُ حَجَرَيْنِ، وَالتَمَسْتُ الثَّالِثَ فَلَمْ أَجِدْهُ، فَأَخَذْتُ رَوْثَةً فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَأَخَذَ الحَجَرَيْنِ وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ".
وقوله : ( تبرز ) أي: أي البَراز ، و(البَراز) ، ومثله ( الغائط ) : هو مكان قضاء الحاجة .
والله أعلم.