من قصة سيدنا موسي عليه السلام، قبل نزول الرسالة عليه وفتاتي مدين: - نعلم أن الاختلاط حرام أو مكروه شرعا، وغض البصر وصرفه عن نظر الفجأة واجب شرعا، فإني أجد هنا نوعا من الالتباس، إذ أن سيدنا موسي عليه السلام هنا كي يقرر أن هاتين الفتاتين بهما خطب غريب عن القوم ألا يتطلب ذلك أن ينظر إليهما، ويتابعهما مدة من الوقت، وإن كان فعل، أليس في ذلك تضارب مع قوله صلي الله عليه وسلم: (النظرة الأولي لك، أما الثانية فعليك)؟ - حينما قرر عليه السلام التوجه إليهما وسؤالهما عن حالهما، أليس ذلك هو عين الإختلاط!؟ - حينما ردت عليه الفتاة قائلة: (وأبونا شيخ كبير)، أليس في ذلك جرأة من الفتاة، فهي لم تستح، ولو تجب علي قدر السؤال فقط، (لا نسقي حتي يصدر الرعاء)، بل أضافت شيئا عن حياتها الشخصية قائلة (وأبونا شيخ كبير)، وإني أجد في ذلك تلميحا ضمنيا له كرجل شاب يافع مفاده: "هلا سقيت لنا أنت مع الرجال!؟ والتقط موسي عليه السلام هذا المعني فسقي لهما، أليس هنا قرار بالاختلاط من موسي عليه السلام !؟ أليس هنا جرأة مبالغة من الفتاة وبعد ضمني عن الحياء؟ - حينما عادت الفتاة إلي أبيها، وقالت في حضور موسى عليه السلام: ( يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين)، أليست هذه كلمة إعجاب في حق شاب قالتها فتاة؟ وكأنها تقول نحن نحتاج إلي رجل يساعدنا يا أبي، ونحن لا نقوي علي أعمال الرجال، كالسقي وغيره فاستأجره!! وهنا تلميح ضمني آخر لوالدها، فكيف يستأجر والدها رجلا أجنبيا عندهم، ولديه فتاتان يافعتان، فلا حل إلا بالزواج، وهذا ما قاله الوالد الحكيم الذي فهم إعجاب ابنته بموسي عليه السلام! ليس الغرض هنا نفي الحياء عن سيدنا موسي أو الفتاتين فهما علي قدر كبير منه، وتكفي قصة إلقاء الحصي في طريق العودة لإيضاح ذلك.
الحمد لله.
أولًا :
إن الله سبحانه وتعالى قص علينا القصص في القرآن المجيد لنأخذ منه العبرة، وعلى المسلم أن يرجع لأهل العلم بالقرآن ليبينوا له الصحيح من الفاسد، وأن يطالع كتب التفسير الموثوقة ليأخذ معاني كلام الله تعالى منها.
ثانيًا:
لما وصل موسى عليه السلام إلى ماء مدين، والناس يسقون، كان مما يمكن أن يلاحظه أي أحد، وجود من لا يرد الماء مع الواردين، بل يكفكف غنمه عن الورود، وكان من الملفت أنهما فتاتان، وهذا يحصل بأدنى ملاحظة، ولا يلزم منه التتبع الذي أوردته في سؤالك، إذ يمكن أنه كان في مكان أسفل من مكانهم، أو مما يلي جهته إذا قدم عليهم.
وقد أجابت الفتاتان عن سؤال موسى باعتذارهما عن الخروج للعمل، لأن هذا كان مما يُتعجب منه، أن تخرج المرأة للعمل، فذكرتا سبب خروجهما، وهو أن أباهما شيخ كبير لا يقوى على هذا العمل، ولا خادم عندهما أو أخٌ يكفيهما سقي هذه الأنعام .
قال ابن عجيبة: "ووجه مطابقة جوابهما سؤاله: أنه سألهما عن سبب الذود، فقالتا: السبب في ذلك أنا امرأتان مستورتان ضعيفتان، لا نقدر على مزاحمة الرجال، ونستحي من الاختلاط بهم، فلابد لنا من تأخير السقي إلى أن يفرغوا.
وإنما رضي شعيب عليه السلام لابنتيه بسقي الماشية، لأن الأمر في نفسه مباح، مع حصول الأمن، وأما المروءة فعادات الناس فيها متباينة، وأحوال العرب فيها خلاف أحوال العجم، ومذهب أهل البدو فيه غير مذهب أهل الحضر، خصوصاً إذا كانت الضرورة"، انتهى من"البحر المديد" (4/242).
قال ابن عاشور: " كان قولهما ( وأبونا شيخ كبير ) اعتذارًا عن حضورهما للسقي مع الرجال، لعدم وجدانهما رجلا يستقي لهما، لأن الرجل الوحيد لهما هو أبوهما، وهو شيخ كبير لا يستطيع ورود الماء لضعفه عن المزاحمة"، انتهى من"التحرير والتنوير" (20/100).
ثالثًا :
كانت المرأة من الحياء كما قال عمر قال عمر رضي الله عنه: "جاءت تمشي على استحياء، قائلة بثوبها على وجهها، ليست بسلفع". انظر : "تفسير ابن كثير"(6/228).
والسلفع: الجريئة.
ومن الحياء الجميل والتأدب في العبارة قولها: إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا، فلم تطلبه طلبًا مطلقًا، بل ذكرت أن أباها هو الداعي، وأنه دعاه ليجزيه ويكرمه .
رابعًا :
وقد طلبت المرأة أن يستأجر أبوها هذا القوي الأمين، الذي لم ينظر إليها نظرة ريبة، ولا زال هذا في العرب وسيرتهم وأحوالهم، وإنما طلبت ذلك لكي يرحمهم من الرعي، ولأجل أن تنتفي الريبة عرض عليه الرجل الصالح أن يزوجه مقابل الرعي.
خامسًا :
واعلم أنه يجوز مكالمة الأجنبية مع التصون والعفاف، وهذا من أدلته.
وقد ذكرنا في الجواب رقم:(221548) أن الأصل للمرأة المسلمة مجانبة الرجال الأجانب عنها وعدم الاتصال بهم بكلام أو نظر، إلا لحاجة، كبيع وشراء، وعلاج لا توجد امرأة تقوم به، وما شابه هذا من الحاجات التي تقوم عليها الحياة الإنسانية.
وذكرنا أنه إن كان عمل المرأة ليس فيه استمرار الخلطة والنظر، بل يأتي أحيانًا؛ فلا حرج من البقاء في العمل مع غض البصر وقضاء العمل بأخصر وقت، والابتعاد عن أسباب الفتنة ما أمكنك ذلك.
انظر الجواب رقم: (27304).
والله أعلم