أقرأ كثيراً: (هذا الفعل شرك أكبر، وهذا شرك أصغر) فما الفرق بين الشرك الأكبر والشرك الأصغر من حيث الحقيقة ومن حيث الحكم؟ وما هي أقسام كل قسم بالتفصيل؟
الحمد لله.
إن من الواجبات المحتمات، ومن أهم المهمات؛ أن يعرف العبد معنى الشرك وخطره وأقسامه حتى يتم توحيده، ويسلم إسلامه، ويصح إيمانه. فنقول وبالله التوفيق ومنه السداد.
اعلم - وفقك الله لهداه - أن الشرك في اللغة هو: اتخاذ الشريك يعني أن يُجعل واحداً شريكاً لآخر. يقال: أشرك بينهما إذا جعلهما اثنين، أو أشرك في أمره غيره إذا جعل ذلك الأمر لاثنين.
وأما في الشرع فهو: اتخاذ الشريك أو الند مع الله جل وعلا في الربوبية أو في العبادة أو في الأسماء والصفات.
والند هو: النظير والمثيل. ولذا نهى الله تعالى عن اتخاذ الأنداد وذم الذين يتخذونها من دون الله في آيات كثيرة من القرآن فقال تعالى: (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) البقرة / 22.
وقال جل شأنه: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) إبراهيم / 30.
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وهو يدعو من دون الله ندا دخل النار) رواه البخاري (4497) ومسلم (92).
وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على أن الشرك والتنديد تارة يكون مخرجاً من الملة، وتارة لا يكون مخرجاً من الملة، ولذا اصطلح العلماء على تقسيمه إلى قسمين: (شرك أكبر، وشرك أصغر) وإليك تعريفاً موجزاً بكل قسم:
وهو أن يصرف لغير اللهِ ما هو محض حق الله من ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته. وهذا الشرك تارة يكون ظاهراً: كشرك عبَّاد الأوثان والأصنام وعبَّاد القبور والأموات والغائبين.
وتارة يكون خفياً: كشرك المتوكلين على غير الله من الآلهة المختلفة، أو كشرك وكفر المنافقين؛ فإنهم وإن كان شركهم أكبر يخرج من الملة ويخلد صاحبه في النار؛ إلا أنه شرك خفي، لأنهم يظهرون الإسلام ويخفون الكفر والشرك فهم مشركون في الباطن دون الظاهر.
كما أن هذا الشرك تارة يكون في الاعتقادات كاعتقاد أن هناك من يخلق أو يحي أو يميت أو يملك أو يتصرف في هذا الكون مع الله تعالى.
أو اعتقاد أن هناك من يطاع طاعة مطلقة مع الله، فيطيعونه في تحليل ما شاء وتحريم ما شاء ولو كان ذلك مخالفا لدين الرسل.
أو الشرك بالله في المحبة والتعظيم، بأن يُحب مخلوقا كما يحب الله، فهذا من الشرك الذي لا يغفره الله، وهو الشرك الذي قال الله فيه: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله) البقرة / 165.
أو اعتقاد أن هناك من يعلم الغيب مع الله، وهذا يكثر لدى بعض الفرق المنحرفة كالرافضة وغلاة الصوفية والباطنية عموما، حيث يعتقد الرافضة في أئمتهم أنهم يعلمون الغيب، وكذلك يعتقد الباطنية والصوفية في أوليائهم نحو ذلك. وكاعتقاد أن هناك من يرحم الرحمة التي تليق بالله عزَّ وجل، فيرحم مثله وذلك بأن يغفر الذنوب ويعفو عن عباده ويتجاوز عن السيئات.
وتارة يكون الشرك في الأقوال كمن دعا أو استغاث أو استعان أو استعاذ بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل؛ سواء كان هذا الغير نبيا أو وليا أو مَلَكا أو جِنِّياًّ، أو غير ذلك من المخلوقات، فإن هذا من الشرك الأكبر المخرج من الملة.
وكمن استهزأ بالدين أو مثل اللهَ بخلقه، أو أثبت مع الله خالقاً أورازقاً أو مدبراً، فهذا كله من الشرك الأكبر والذنب العظيم الذي لا يغفر.
وتارة يكون في الأفعال:
كمن يذبح أو يصلي أو يسجد لغير الله، أو يسن القوانين التي تضاهي حكم الله ويشرعها للناس، ويلزمهم بالتحاكم إليها، وكمن ظاهر الكافرين وناصرهم على المؤمنين، ونحو ذلك من الأفعال التي تنافي أصل الإيمان، وتخرج فاعلها من ملة الإسلام. نسأل الله عفوه وعافيته.
وهو كل ما كان وسيلة إلى الشرك الأكبر، أو ورد في النصوص أنه شرك، ولم يصل إلى حد الشرك الأكبر.
وهذا يكون في الغالب من جهتين:
الأولى: من جهة التعلق ببعض الأسباب التي لم يأذن الله جل وعلا بها، كتعليق الكَفِّ والخرز ونحو ذلك على أنها سبب للحفظ أو أنها تدفع العين والله تعالى لم يجعلها سبباً لذلك لا شرعاً ولا قدراً.
الثانية: من جهة تعظيم بعض الأشياء التعظيم الذي لا يوصلها إلى مقام الربوبية، كالحلف بغير الله، وكقول: لولا الله وفلان، وأشباه ذلك.
وقد وضع العلماء ضوابط وقواعد يتميز بها الشرك الأكبر عن الأصغر عند وروده في النصوص الشرعية فمن هذه الضوابط ما يلي:
1- أن ينص النبي صلى الله عليه وسلم صراحة على أن هذا الفعل من الشرك الأصغر: كما في المسند (27742) عن مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الشِّرْكُ الأَصْغَرُ. قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَمَا الشِّرْكُ الأَصْغَرُ؟ قَالَ:الرِّيَاء. إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ يَوْمَ تُجَازَى الْعِبَادُ بِأَعْمَالِهِمْ اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ بِأَعْمَالِكُمْ فِي الدُّنْيَا فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً" وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (951).
2- أن يرد لفظ الشرك في نصوص الكتاب والسنة منكَّراً ـ أي غير مقترن بالألف واللام ـ فهذا في الغالب يقصد به الشرك الأصغر وله أمثلة كثيرة كقوله صلى الله عليه وسلم "إن الرقى والتمائم والتِّوَلَة شرك".
أخرجه أبو داود (3883) وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (331).
فالمقصود بالشرك هنا الأصغر دون الأكبر.
والتمائم شيء يعلق على الأولاد كالخرز ونحوه يزعمون أن ذلك يحفظه من العين.
والتولة شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها، والرجل إلى امرأته.
3- أن يفهم الصحابة من النصوص الشرعية أن المراد بالشرك في هذا الموضع هو الأصغر دون الأكبر، ولا شك أن فهم الصحابة معتبر، فهم أعلم الناس بدين الله عز وجل، وأدراهم بمقصود الشارع. ومن أمثلة ذلك ما رواه أبو داود (3910) عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الطِّيَرَةُ شِرْكٌ الطِّيَرَةُ شِرْكٌ ثَلاثًا، وَمَا مِنَّا إِلا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّل" فجملة (وما منا إلا..) هذه من كلام ابن مسعود كما بين ذلك جهابذة المحدثين فهذا يدل على أن ابن مسعود رضي الله عنه فهم أن هذا من الشرك الأصغر، لأنه لا يمكن أن يقصد وما منا إلا ويقع في الشرك الأكبر، كما أن الشرك الأكبر لا يذهبه الله بالتوكل بل لابد من التوبة.
4- أن يفسر النبي صلى الله عليه وسلم لفظ الشرك أو الكفر بما يدل على أن المقصود به الأصغر وليس الأكبر كما روى البخاري (1038) ومسلم (71) عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنْ اللَّيْلَةِ فَلَمَّا انْصَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: "هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ "قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ فَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ".
فالكفر هنا جاء تفسيره في الرواية الأخرى عن أبي هريرة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَمْ تَرَوْا إِلَى مَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالَ: "مَا أَنْعَمْتُ عَلَى عِبَادِي مِنْ نِعْمَةٍ إِلَّا أَصْبَحَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِهَا كَافِرِينَ يَقُولُونَ الْكَوَاكِبُ وَبِالْكَوَاكِب". فبين هنا أن من نسب إنزال المطر إلى الكواكب باعتبارها سبباً لنزوله - والواقع أن الله لم يجعلها سبباً لذلك - فكفره كفرٌ بنعمة الله عليه، ومعلوم أن كفر النعمة كفر أصغر أما من اعتقد أن الكواكب هي التي تتصرف في الكون وأنها هي التي تنزل المطر فهذا شرك أكبر.
والشرك الأصغر تارة يكون ظاهراً كلبس الحلقة والخيط والتمائم ونحو ذلك من الأعمال والأقوال.
وتارة يكون خفياً كيسير الرياء.
كما أنه تارة يكون بالاعتقادات:
كأن يعتقد في شيء أنه سبب لجلب النفع ودفع الضر ولم يجعله الله سبباً لذلك. أو يعتقد في شيء البركة، والله لم يجعل فيه ذلك.
وتارة يكون بالأقوال:
كمن قال مطرنا بنوء كذا وكذا؛ دون أن يعتقد أن النجوم هي التي تستقل بإنزال المطر، أو حلف بغير الله دون أن يعتقد تعظيم المحلوف به ومساواته لله، أو قال ما شاء الله وشئت. ونحو ذلك.
وتارة يكون بالأفعال:
كمن يعلِّق التمائم أو يلبس حلقة أو خيطا ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه، لأن كل من أثبت سبباً لشيء والله لم يجعله سببا له شرعا ولا قدراً، فقد أشرك بالله. وكذلك من يتمسح بشيء رجاء بركته ولم يجعل الله فيه البركة، كتقبيل أبواب المساجد، والتمسح بأعتابها، والاستشفاء بتربتها، ونحو ذلك من الأفعال.
هذه نبذة مختصرة عن تقسيم الشرك إلى أكبر وأصغر، وتفصيلات ذلك لا يمكن استيعابها في هذه الإجابة المختصرة.
نصائح مهمة
وبعد: فالواجب على المسلم أن يحذر الشرك صغيره وكبيره، فإن أعظم معصية عصي الله بها هي الشرك به، والتعدي على خالص حقه؛ وهو عبادته وطاعته وحده لا شريك له.
ولذا فقد أوجب الخلود في النار للمشركين وأخبر أنه لا يغفر لهم، وحرَّم الجنة عليهم كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً) النساء / 48.
وقال جل شأنه (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) المائدة / 72.
فوجب على كل ذي عقل ودين أن يخشى على نفسه من الشرك وأن يلوذ بربه طالباً منه أن ينجيه من الشرك؛ كما قال الخليل عليه السلام: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ) إبراهيم / 35، قال بعض السلف: "ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم".
فلا يسع العبد الصادق إلا أن يَعظُم خوفه من الشرك، وأن تشتد رغبته إلى ربه في أن ينجيه منه، داعياً بالدعاء العظيم الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين قال لهم: "الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل، وسأدلك على شيء إذا فعلته أذهب عنك صغار الشرك وكباره تقول: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم". صححه الألباني في "صحيح الجامع" (3731).
ما سبق هو الفرق بين الشرك الأكبر والأصغر من حيث الحقيقة، وتعريف كل قسم وبيان أنواعه.
وأما الفرق بينهما من حيث الحكم:
فهو أن الشرك الأكبر مخرج من الإسلام، فيُحكم على فاعله بالخروج من الإسلام والارتداد عنه فيكون كافراً مرتداً.
وأما الشرك الأصغر فلا يخرج من الإسلام، بل قد يقع من المسلم ويبقى على إسلامه، غير أن فاعله على خطر عظيم، لأن الشرك الأصغر كبيرة من كبائر الذنوب حتى قال ابن مسعود رضي الله عنه: (لأن أحلف بالله كاذباً أحب إليّ من أن أحلف بغيره صادقاً) فجعل رضي الله عنه الحلف بغير الله (وهو شرك أصغر) أقبح من الحلف بالله كاذباً ومعلوم أن الحلف بالله كاذباً من الكبائر.
نسأل الله أن يثبت قلوبنا على دينه حتى نلقاه، ونعوذ بعزته - سبحانه - أن يضلنا؛ فهو الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون. والله أعلم وأحكم، وإليه المرجع والمآب.