الحمد لله.
أولاً :
التفويض في أسماء الله تعالى وصفاته له معنيان :
الأول : معنى صحيح ، وهو إثبات اللفظ ومعناه الذي يدل عليه ، ثم تفويض علم كيفيته إلى الله ، فنثبت لله تعالى أسماءه الحسنى ، وصفاته العلى ، ونعرف معانيها ونؤمن بها ، غير أننا لا نعلم كيفيتها .
فنؤمن بأن الله تعالى قد استوى على العرش ، استواء حقيقيا يليق بجلاله سبحانه ، ليس كاستواء البشر ، ولكن كيفية الاستواء مجهولة بالنسبة لنا ؛ ولذا ، فإننا نفوض كيفيته إلى الله ، كما قال الإمام مالك وغيره لما سئل عن الاستواء : "الاستواء معلوم ، والكيف مجهول" .
انظر : "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام (3/25) .
وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة : إثبات صفات الله تعالى ، إثباتاً بلا تمثيل ولا تكييف ، قال الله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ) .
قال ابن عبد البر رحمه الله :
" أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة في الكتاب والسنة وحملها على الحقيقة لا على المجاز ، إلا أنهم لم يكيفوا شيئا من ذلك " .
"العلو للعلي الغفار" (ص 250)
والمعنى الثاني للتفويض - وهو معنى باطل - : إثبات اللفظ من غير معرفة معناه .
فيثبتون الألفاظ فقط ، (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) ثم يقولون : لا ندري معناه ، ولا ماذا أراد الله به !!
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
"وأما التفويض : فإن من المعلوم أن الله تعالى أمرنا أن نتدبر القرآن وحضّنا على عقله وفهمه ، فكيف يجوز مع ذلك أن يراد منا الإعراض عن فهمه ومعرفته وعقله ؟
وأيضا : فالخطاب الذي أريد به هدانا والبيان لنا وإخراجنا من الظلمات إلي النور إذا كان ما ذكر فيه من النصوص ظاهره باطل وكفر ولم يُرد منا أن نعرف لا ظاهره ولا باطنه ، أو أريد منا أن نعرف باطنه من غير بيان في الخطاب لذلك ، فعلي التقديرين لم نخاطَبْ بما بُيّن فيه الحق ، ولا عرفنا أن مدلول هذا الخطاب باطل وكفر .
وحقيقة قول هؤلاء في المخاطِب لنا : أنه لم يبين الحق ولا أوضحه مع أمره لنا أن نعتقده ، وأن ما خاطبنا به وأمرنا باتباعه والرد إليه لم يبين به الحق ولا كشفه ، بل دل ظاهره علي الكفر والباطل ، وأراد منا أن نفهم منه شيئا أو أن نفهم منه ما لا دليل عليه فيه ، وهذا كله مما يعلم بالاضطرار تنزيه الله ورسوله عنه ، وأنه من جنس أقوال أهل التحريف والإلحاد ...
إلى أن قال : فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد " انتهى .
"درء التعارض" (1/115) .
وقال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله :
"السلف لم يكن مذهبهم التفويض ، وإنما مذهبهم الإيمان بهذه النصوص كما جاءت ، وإثبات معانيها التي تدلُّ عليها على حقيقتها ووضعها اللغوي ، مع نفي التَّشبيه عنها ؛ كما قال تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) الشورى/ 11" انتهى .
"المنتقى من فتاوى الفوزان" (25/1) .
وقال الشيخ ابن جبرين رحمه الله :
"الصواب : ترك التأويل ، وإثبات حقيقة الصفات التي أفادتها تلك النصوص ، مع تفويض العلم بالكيفيات والماهيَّات ، ومع اعتقاد أنها لا يُفهم منها تشبيه الرب أو شيء من صفاته بالمخلوقين ، فلا تشبيه ولا تعطيل" انتهى .
"فتاوى الشيخ ابن جبرين" (64/41) .
وقال الشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمه الله :
"مذهب السلف هو التفويض في كيفية الصفات لا في المعنى" انتهى .
"فتاوى الشيخ عبد الرزاق عفيفي" (ص 104) .
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله :
"المفوضة قال أحمد فيهم : إنهم شر من الجهمية ، والتفويض أن يقول القائل : الله أعلم بمعناها فقط ، وهذا لا يجوز ; لأن معانيها معلومة عند العلماء . قال مالك رحمه الله : الاستواء معلوم والكيف مجهول ، وهكذا جاء عن الإمام ربيعة بن أبي عبد الرحمن وعن غيره من أهل العلم ، فمعاني الصفات معلومة ، يعلمها أهل السنة والجماعة ; كالرضا والغضب والمحبة والاستواء والضحك وغيرها ، وأنها معاني غير المعاني الأخرى ، فالضحك غير الرضا ، والرضا غير الغضب ، والغضب غير المحبة ، والسمع غير البصر ، كلها معلومة لله سبحانه ، لكنها لا تشابه صفات المخلوقين" انتهى .
"فتاوى نور على الدرب لابن باز" (ص 65) .
وقال أيضا :
"أنكر الإمام أحمد رحمه الله وغيره من أئمة السلف على أهل التفويض , وبدّعوهم لأن مقتضى مذهبهم أن الله سبحانه خاطب عباده بما لا يفهمون معناه ولا يعقلون مراده منه , والله سبحانه وتعالى يتقدس عن ذلك , وأهل السنة والجماعة يعرفون مراده سبحانه بكلامه ، ويصفونه بمقتضى أسمائه وصفاته وينزهونه عن كل ما لا يليق به عز وجل . وقد علموا من كلامه سبحانه ومن كلام رسوله صلى الله عليه وسلم أنه سبحانه موصوف بالكمال المطلق في جميع ما أخبر به عن نفسه أو أخبر به عنه رسوله صلى الله عليه وسلم" انتهى .
"مجموع فتاوى ابن باز" (3/55) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
"التفويض نوعان : تفويض المعنى ، وتفويض الكيفية .
فأهل السنة والجماعة يفوضون الكيفية ، ولا يفوضون المعنى ، بل يقرُّون به ، ويثبتونه ، ويشرحونه ، ويقسمونه ، فمن ادعى أن أهل السنة هم الذين يقولون بالتفويض - ويعني به تفويض المعنى - فقد كذب عليهم" انتهى .
"لقاء الباب المفتوح" (67/24) .
ثانياً :
توهم البعض أن مذهب السلف هو التفويض ، وفهموا ذلك من قول السلف في أحاديث الصفات : (أمروها كما جاءت بلا كيف) .
وهو فهم غير صحيح ، بل هذا القول الوارد عن السلف يدل على أنهم كانوا يثبتون الصفات بمعانيها لله تعالى ، ثم ينفون علمهم بكيفية ذلك .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
"فقول ربيعة ومالك : (الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والإيمان به واجب) موافق لقول الباقين : (أمروها كما جاءت بلا كيف) فإنما نفوا علم الكيفية ، ولم ينفوا حقيقة الصفة .
ولو كان القوم قد آمنوا باللفظ المجرد من غير فهم لمعناه على ما يليق بالله لما قالوا : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، ولما قالوا : أمروها كما جاءت بلا كيف ، فإن الاستواء حينئذ لا يكون معلوماً ، بل مجهولاً بمنزلة حروف المعجم .
وأيضاً : فإنه لا يحتاج إلى نفى علم الكيفية إذا لم يفهم عن اللفظ معنى ، وإنما يحتاج إلى نفى علم الكيفية إذا أثبتت الصفات .
وأيضاً : فإن من ينفى الصفات لا يحتاج إلى أن يقول : بلا كيف ، فمن قال : إن الله ليس على العرش ، لا يحتاج أن يقول : بلا كيف ، فلو كان مذهب السلف نفى الصفات في نفس الأمر لما قالوا : بلا كيف .
وأيضاً : فقولهم : "أمروها كما جاءت" يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه ، فإنها جاءت ألفاظ دالة على معانٍ ، فلو كانت دلالتها منتفية لكان الواجب أن يقال : أمروا لفظها مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد ، أو : أمروا لفظها مع اعتقاد أن الله لا يوصف بما دلت عليه حقيقة ، وحينئذ فلا تكون قد أُمِرّت كما جاءت ، ولا يقال حينئذ : بلا كيف ، إذ نفي الكيف عما ليس بثابت لغو من القول" انتهى .
"مجموع الفتاوى" الفتوى الحموية (5/41) .
وقد قرب ذلك الشيخ ابن عثيمين رحمه الله فقال :
"اشتهر عن السلف كلمات عامة وأخرى خاصة في آيات الصفات وأحاديثها فمن الكلمات العامة قولهم: " أمروها كما جاءت بلا كيف".
روي هذا عن مكحول ، والزهري ، ومالك بن أنس ، وسفيان الثوري ، والليث بن سعد ، والأوزاعي .
وفي هذه العبارة رد على المعطلة والممثلة ، ففي قولهم: " أمروها كما جاءت" رد على المعطلة. وفي قولهم : " بلا كيف" رد على الممثلة .
وفيها أيضا دليل على أن السلف كانوا يثبتون لنصوص الصفات المعاني الصحيحة التي تليق بالله تدل على ذلك من وجهين :
الأول : قولهم : "أمروها كما جاءت" . فإن معناها إبقاء دلالتها على ما جاءت به من المعاني ، ولا ريب أنها جاءت لإثبات المعاني اللائقة بالله تعالى ، ولو كانوا لا يعتقدون لها معنى لقالوا : "أمروا لفظها ولا تتعرضوا لمعناها" . ونحو ذلك .
الثاني : قولهم : "بلا كيف" فإنه ظاهر في إثبات حقيقة المعنى ، لأنهم لو كانوا لا يعتقدون ثبوته ما احتاجوا إلى نفي كيفيته ، فإن غير الثابت لا وجود له في نفسه ، فنفي كيفيته من لغو القول" انتهى .
"مجموع فتاوى ابن عثيمين" (4/32) .
والله تعالى أعلم .
تعليق