الحمد لله.
الملائكة عباد مكرمون ، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، وقد خلقهم الله وجبلهم على طاعته وعبادته ، فمنهم الموكل بالوحي ، ومنهم الموكل بالأرزاق ، ومنهم الموكل بالجبال ، ومنهم المخلوق للعبادة والصلاة والتسبيح وذكر الله .
روى الترمذي (2312) وحسنه عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
( إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ ، أَطَّتْ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ ) حسنه الألباني في "صحيح الترمذي" .
وفي حديث الإسراء : ( فَرُفِعَ لِي الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ فَسَأَلْتُ جِبْرِيلَ فَقَالَ : هَذَا الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ يُصَلِّي فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ إِذَا خَرَجُوا لَمْ يَعُودُوا إِلَيْهِ آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ ) .
رواه البخاري (3207) ومسلم (164)
وروى الطبري في "تفسيره" (21/127) عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : " إن من السموات لسماء ما فيها موضع شبر إلا وعليه جبهة ملك أو قدمه قائما ، ثم قرأ : ( وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ) وصححه الألباني في "الصحيحة" (1059) .
ومثل هذه العبادة لا يطيقها بشر ، ولا يقدرون عليها ، والملائكة لا يفترون ولا يسأمون ، كما قال تعالى : ( فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ ) فصلت/ 38 ، والبشر ركبت فيهم الطبيعة البشرية ، بما فيهم أنبياء الله ورسله صلى الله عليهم وسلم ، فهم يختلفون عن الملائكة في صفاتهم وطبائعهم .
فالملائكة يقدرون في العبادة على ما لا يقدر عليه بشر .
لكن ذلك لا يعني أنهم خير من الأنبياء ، لأن عبادتهم أعظم أو أكثر ؛ فالأنبياء بحكم كونهم بشرا ، وفيهم طبيعة البشر ، لما ارتفعوا إلى ذلك المقام العالي في طاعة ربهم ، كانت لهم فضيلة خاصة ، ومقام عظيم ، حتى ذهب غير واحد من أهل العلم إلى أن صالحي البشر أفضل مقاما من الملائكة ، لأن الملائكة ليس عندهم نوازع للشر أو العصيان ، وأما صالحو البشر فعندهم هذه النوازع ، غير أنهم يغالبونها ، ويقهرونها في طاعة الله .
سُئِلَ شَيخ الإسلاَم عَنْ الْمُطِيعِينَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ هُمْ أَفْضَلُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ؟
فَأَجَابَ :
" قَدْ ثَبَتَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ : " إنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالَتْ : يَا رَبِّ جَعَلْت بَنِي آدَمَ يَأْكُلُونَ فِي الدُّنْيَا وَيَشْرَبُونَ وَيَتَمَتَّعُونَ ، فَاجْعَلْ لَنَا الْآخِرَةَ كَمَا جَعَلْت لَهُمْ الدُّنْيَا ؟ قَالَ : لَا أَفْعَلُ ثُمَّ أَعَادُوا عَلَيْهِ قَالَ : لَا أَفْعَلُ ثُمَّ أَعَادُوا عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَقَالَ : وَعِزَّتِي لَا أَجْعَلُ صَالِحَ ذَرِّيَّةِ مَنْ خَلَقْت بِيَدَيَّ ، كَمَنْ قُلْت لَهُ : كُنْ فَكَانَ " ذَكَرَهُ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدارمي .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ أَنَّهُ قَالَ : مَا خَلَقَ اللَّهُ خَلْقًا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْ مُحَمَّدٍ . فَقِيلَ لَهُ : وَلَا جِبْرِيلُ وَلَا ميكائيل فَقَالَ لِلسَّائِلِ : " أَتَدْرِي مَا جِبْرِيلُ وَمَا ميكائيل ؟ إنَّمَا جِبْرِيلُ وميكائيل خَلْقٌ مُسَخَّرٌ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ ، وَمَا خَلَقَ اللَّهُ خَلْقًا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " .
وَمَا عَلِمْت عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ . وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ مِنْ أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ ، وَهُوَ : أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ أَفْضَلُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ "
انتهى من "مجموع الفتاوى" (4 /344) .
وقال أيضا :
" وَآدَمُ خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ طِينٍ ، فَلَمَّا سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَأَسْجَدَ لَهُ الْمَلَائِكَةَ وَفَضَّلَهُ عَلَيْهِمْ بِتَعْلِيمِهِ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ وَبِأَنْ خَلَقَهُ بِيَدَيْهِ وَبِغَيْرِ ذَلِكَ ، فَهُوَ وَصَالِحُو ذُرِّيَّتِهِ أَفْضَلُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ ؛ وَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ مَخْلُوقِينَ مِنْ طِينٍ ؛ وَهَؤُلَاءِ مِنْ نُورٍ "
انتهى من "مجموع الفتاوى" (11 /95) .
وقال ابن القيم رحمه الله :
" إن الله سبحانه يخلق من المادة المفضولة ما هو أفضل من المخلوق من غيرها ، وهذا من كمال قدرته سبحانه ، ولهذا كان محمد وإبراهيم وموسى وعيسى ونوح والرسل أفضل من الملائكة ، ومذهب أهل السنة أن صالحي البشر أفضل من الملائكة ، وإن كانت مادتهم نورا ، ومادة البشر ترابا " انتهى من "الصواعق المرسلة" (3 /1002) .
وقال أيضا :
" صالح البشر أفضل من الملائكة ، لأن الملائكة عبادتهم بريئة عن شوائب دواعي النفس والشهوات البشرية ، فهي صادرة عن غير معارضة ولا مانع ولا عائق ، وهي كالنفَس للحي . وأما عبادات البشر فمع منازعات النفوس ، وقمع الشهوات ومخالفة دواعي الطبع فكانت أكمل ، ولهذا كان أكثر الناس على تفضيلهم على الملائكة لهذا المعنى ولغيره "
انتهى من "طريق الهجرتين" (ص 349-350) .
وهناك من فصل تفصيلا آخر في المسألة ، فقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" المفاضلة بين الملائكة وبين الصالحين من البشر محل خلاف بين أهل العلم ، وكل منهم أدلى بدلوه فيما يحتج به من النصوص ، ولكن القول الراجح أن يقال : إن الصالحين من البشر أفضل من الملائكة باعتبار النهاية ، فإن الله سبحانه وتعالى يؤدي لهم من الثواب ما لا يحصل مثله للملائكة فيما نعلم ، بل إن الملائكة في مقرهم- أي : في مقر الصالحين ، وهو الجنة - يدخلون عليهم من كل باب يهنئونهم : ( سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ) .
أما باعتبار البداية فإن الملائكة أفضل ؛ لأنهم خلقوا من نور ، وجبلوا على طاعة الله عز وجل والقوة عليها ، كما قال الله تعالى في الملائكة ملائكة النار : (عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) ، وقال عز وجل : (وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ) هذا هو القول الفصل في هذه المسألة
وبعدُ : فإن الخوض فيها ، وطلب المفاضلة بين صالح البشر والملائكة ، من فضول العلم الذي لا يضطر الإنسان إلى فهمه والعلم به " انتهى من "فتاوى نور على الدرب" (8 /6) .
وصدق رحمه الله ؛ فإن هذه المسألة وأشباهها لا حاجة للعبد في الخوض فيها ونصب النزاع في كون هؤلاء أفضل أم هؤلاء ؟ وهؤلاء أعبد أم هؤلاء ؟ من فضول العلم ، ولا ضرورة على المسلم في معرفة الأفضل والأكمل منهم عليهم السلام ، والذي ينبغي عليه أن يلتفت إلى صلاح نفسه بطاعة ربه .
والله تعالى أعلم .
تعليق