الحمد لله.
فقد ذكر العلماء – رحمهم الله – وجوها مختلفة للتوفيق بين الآية الكريمة والحديث الشريف , ومن هذه الوجوه :
أولا : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتم هذا الأمر ، بدليل أنه أخبر به معاذ بن جبل رضي الله عنه , غاية الأمر أنه منع نشره عند بعض الناس خوفا على من لم يدرك مرامي الحديث ، والجمع بين أطراف الأدلة ، من أن يتكل على ما سمع وأدركه من هذا الحديث ، فيدع بعض العمل ، أو يفرط فيما أمر به ؛ وهذه مفسدة ظاهرة ، في حين أن فوات سماع هذا الحديث : لا يضيع شيئا من العمل ، ولا يخشى منه مفسدة بينة ، ولا شك أن فوات البشرى في حق هؤلاء ، واستمرارهم على الأخذ بالوثيقة والجد في العمل ، هو آمن لهم وأرجى من المفسدة المذكورة .
جاء في " مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح " (1 / 98) : " واحتج البخاري على أن للعالم أن يخص بالعلم قوما دون قوم ، كراهة ألا يفهموا ، وقد يتخذ أمثال هذه الأحاديث البطلة والمباحية ذريعة إلى ترك التكاليف ورفع الأحكام ، وذلك يُفضي إلى خراب الدنيا بعد خراب العقبى" انتهى .
ثانيا : أن يقال : إن أمره
صلى الله عليه وسلم بالكتمان ليس المقصود به الكتمان المطلق المؤبد ، بل هو كتمان
في زمان معين , ولم يستمر هذا الكتمان ، بدليل أن معاذا قد أخبر بهذا الحديث قبل
موته , فقد جاء في نهاية هذا الحديث : " وأخبر بها معاذ عند موته تأثما" رواه
البخاري (128) , ومسلم (53) .
جاء في " مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح " (1 / 93) : " أي تجنباً وتحرزاً عن
الوقوع في إثم كتمان العلم " انتهى , وهذا ظاهر في أن معاذا رضي الله عنه لم يفهم
المنع المطلق عن نشر هذا الحديث وتبليغه ، إنما فهم أن ذلك المنع مقيد بحال ، أو
شخص ، أو وقت ، أو قيد ما ، ورأى أن هذا القيد قد فات ، وأن التشريع قد استقر ،
واستمر شأن الناس عليه ، ولم يَخش عليهم تلك المفسدة .
جاء في " مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح " (1 / 98) : " إنما رواه معاذ مع كونه
منهيا عنه ؛ لأنه علم منه : أن هذا الإخبار يتغير بتغير الزمان والأحوال , والقوم
يومئذ كانوا حديثي العهد بالإسلام لم يعتادوا تكاليفه ، فلما تثبتوا واستقاموا
أخبرهم " انتهى .
ثالثا: يحتمل أن النهي عن
التبشير بذلك لم يكن لكل الناس بل كان خاصا بمن يخشى منه الاتكال وترك العمل ,
وعليه فيكون معاذ - رضي الله عنه - قد أخبر بالحديث قبل موته وخص بذلك من لا يخشى
منهم الاتكال كما خصه رسول الله بذلك .
جاء في " مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح " (1 / 93) : " سَلَّمْنا أنه تأثم من
الكتمان ، فكيف لا يتأثم من مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التبشير؟ أجيب
: بأن النهي كان مقيداً بالاتكال ، فأخبر به من لا يخشى عليه ذلك ، وإذا زال القيد
زال المقيد " انتهى .
وعليه فلا تعارض بين الآية
الكريمة والحديث الشريف .
والله أعلم .
تعليق