الحمد لله.
أولا :
جميل أن ترى في الناس من يحب العدل ويحرص عليه ، ويسأل عن تفاصيله وطريقة تحقيقه ، فالعدل به قامت السماوات والأرض ، وعليه تقوم مصالح العباد والبلاد ، وهو من أعظم ما أمر الله به في كتابه الكريم ، فقال سبحانه وتعالى : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) النحل/90 ، وقال عز وجل : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ) النساء/58 .
والقاعدة الشرعية المبنية
على رحمة الله تعالى وإرادته التيسير على الناس ، تقتضي أن يمتثل المسلم ما يستطيع
من هذه الأوامر ، فيحقق العدل في حياته ، ويحكم به فيمن حوله ، ويتعامل به مع الخلق
، كل ذلك بحسب قدرته وطاقته ، وإلا فالعدل المطلق لا يتصف به إلا الله سبحانه
وتعالى .
لذلك لما أمر الله تعالى بالقسط في المكيال والميزان – وهو صورة من صور العدل –
أتبعها برفع الحرج عما خرج عن الوسع والطاقة ، فقال سبحانه وتعالى : ( وَأَوْفُوا
الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا
وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ
أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) الأنعام/152 .
جاء في " مفاتيح الغيب "
(13/180) للرازي قوله :
" اعلم أنه لما كان يجوز أن يتوهم الإنسان أنه يجب على التحقيق - وذلك صعب شديد في
العدل - أتبعه الله تعالى بما يزيل هذا التشديد ، فقال : ( لا نكلف نفسا إلا وسعها
) " انتهى .
ويقول العلامة السعدي رحمه
الله :
" ( وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ) أي : بالعدل والوفاء التام .
فإذا اجتهدتم في ذلك فـ ( لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ) أي : بقدر ما تسعه
، ولا تضيق عنه . فمَن حرَص على الإيفاء في الكيل والوزن ، ثم حصل منه تقصير لم
يفرط فيه ، ولم يعلمه ، فإن الله عفو غفور . وبهذه الآية ونحوها استدل الأصوليون
بأن الله لا يكلف أحدا ما لا يطيق ، وعلى أن من اتقى الله فيما أمر ، وفعل ما يمكنه
من ذلك ، فلا حرج عليه فيما سوى ذلك " انتهى من " تيسير الكريم الرحمن " (ص/280) .
ويقول العلامة محمد رشيد رضا
رحمه الله :
" ( لا نكلف نفسا إلا وسعها ) هذه جملة مستأنفة لبيان حكم ما يعرض لأهل الدين
والورع من الأمر بالقسط في الإيفاء ; فإنَّ إقامة القسط أمر دقيق جدا ، لا يتحقق في
كل مكيل وموزون إلا إذا كان بموازين كميزان الذهب الذي يضبط الوزن بالحبة وما دونها
، وفي التزام ذلك في بيع الحبوب والخضر والفاكهة حرج عظيم يخطر في بال الورع السؤال
عن حكمه ، فكان جوابه أن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا ما يسعها فعله ، بأن تأتيه
بغير عسر ولا حرج ، فهو لا يكلف من يشتري أو يبيع ما ذكر من الأقوات ونحوها أن يزنه
ويكيله بحيث لا يزيد حبة ولا مثقالا ، بل يكلفه أن يضبط الوزن والكيل له أو عليه
على حد سواء بحسب العرف ، بحيث يكون معتقدا أنه لم يظلم بزيادة ولا نقص يعتد به
عرفا .
وقاعدة اليسر وحصر التكليف بما في وسع المكلف وما يقابله من رفع الحرج ونفي العسر من أعظم قواعد هذا الشرع المبني على أقوى أساس من الحق والعدل ، فلا يساويه فيه قانون من قوانين الخلق ، ولو عمل المسلمون بهذه الوصية لاستقامت أمور معاملتهم وعظمت الثقة والأمانة بينهم ، وكانوا حجة على غيرهم من المطففين والمفسدين . وما فسدت أمورهم وقلت ثقتهم بأنفسهم وحل محلها ثقتهم بالأجانب الطامعين فيهم إلا بترك هذه الوصية وأمثالها ، ثم تجد بعض المارقين الجاهلين منهم يهذون ويقولون : إن ديننا هو الذي أخرنا وقدم غيرنا ! ! " انتهى من " تفسير المنار " (8/168) .
فنصيحتنا لك أن تبذل جهدك في تحقيق العدل في حياتك كلها ، فتعدل مع نفسك بأن توردها موارد النجاة والفوز في الآخرة ، وتجتنب مواقع الزلل والتقصير ، كي لا تعرضها للعذاب والعقاب ، وتعدل مع الناس بصلة الأرحام والإحسان إلى الخلق والعفو عن المسيء ، وأن تحب لهم ما تحب لنفسك من الخير ، وتعدل مع النبات والحيوان والأرض بالرحمة والشفقة واجتناب الأذى والضرر ، وهكذا إذا رأى الله منك ذلك كافأك بإذنه سبحانه على الإحسان إحسانا ، كما قال عز وجل : ( هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ . فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) الرحمن/60-61 .
ثانيا :
أما الحديث الوارد في السؤال : فليس له إسناد صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ،
ولم يروه أصحاب الكتب المسندة المشهورة ، وإنما ذكره المتقي الهندي في كتابه " كنز
العمال " (16/127) قال :
" قال الشيخ جلال الدين السيوطي رحمه الله تعالى : وجدت بخط الشيخ شمس الدين بن
القماح في مجموع له عن أبي العباس المستغفري قال : قصدت مصر أريد طلب العلم من
الإمام أبي حامد المصري ، والتمست منه حديث خالد بن الوليد ، فأمرني بصوم سنة ، ثم
عاودته في ذلك ، فأخبرني بإسناده عن مشايخه إلى خالد بن الوليد قال : ( جاء رجل إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني سائلك عما في الدنيا والآخرة ، فقال له : سل
عما بدا لك – فذكر فيما سأل أنه – قال : أُحِب أن أكون أعدل الناس ؟ قال : أحب
للناس ما تحب لنفسك تكن أعدل الناس ) " انتهى .
وهذا – كما ترى – لا يكفي للحكم بثبوت الحديث ، حيث لم يذكر الإسناد إلى خالد بن الوليد رضي الله عنه .
وجاء في " فتاوى اللجنة الدائمة – المجموعة الأولى " (4/454) : " الحديث غير صحيح لما في سنده من المجاهيل " انتهى .
وقال الشيخ ابن باز رحمه
الله :
" الحديث موضوع ، ورواته مجاهيل ، وكأن واضعه جمع متنه من الأحاديث الصحيحة ، ومن
بعض كلام أهل العلم ، وبعض ألفاظه منكرة لا توافق الأدلة الشرعية ، ولا ريب أن
العمدة فيما ذكره في هذا الحديث هو ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة ، أما هذا المتن
فلا يعتمد عليه ولا يحتج به ؛ لأنه ليس له إسناد صحيح " انتهى من " مجموع فتاوى ابن
باز " (26/326) .
ويغني عن هذه الجملة في الحديث الموضوع : ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أَحِبَّ للناس ما تُحبُّ لنفسك تكن مسلما ) رواه أحمد في " المسند " (13/459) وصححه الألباني في " السلسلة الصحيحة " (رقم/930) ، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ) رواه البخاري (13) ، ومسلم (45) .
والله أعلم .
تعليق