الحمد لله.
أولا :
روى البخاري (406) ، ومسلم (547) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ : " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى بُصَاقًا فِي جِدَارِ الْقِبْلَةِ ، فَحَكَّهُ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ : ( إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي فَلَا يَبْصُقُ قِبَلَ وَجْهِهِ ، فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ إِذَا صَلَّى ) " .
فهو سبحانه وتعالى مستوٍ على
عرشه حقيقة ، وهو قِبل وجه المصلي حقيقة ، على وجه يليق بجلاله .
قال ابن القيم رحمه الله :
" .. فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ ، فَأَيْنَمَا وَلَّى الْمُصَلِّي
فَهِيَ قِبْلَةُ اللَّهِ ، وَهُوَ مُسْتَقْبِلٌ وَجْهَ رَبِّهِ ; لِأَنَّهُ وَاسِعٌ
، وَالْعَبْدُ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يَسْتَقْبِلُ رَبَّهُ
تَعَالَى ، وَاللَّهُ مُقْبِلٌ عَلَى كُلِّ مُصَلٍّ بِوَجْهِهِ ، كَمَا تَوَاتَرَتْ
بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ .... فَإِنَّهُ قَدْ دَلَّ الْعَقْلُ وَالْفِطْرَةُ وَجَمِيعُ كُتُبِ
اللَّهِ السَّمَاوِيَّةِ : عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالٍ عَلَى خَلْقِهِ
فَوْقَ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ ، وَهُوَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ ، وَعَرْشُهُ
فَوْقَ السَّمَاوَاتِ كُلِّهَا ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ مُحِيطٌ بِالْعَوَالِمِ
كُلِّهَا ، فَأَيْنَمَا وَلَّى الْعَبْدُ فَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَقْبِلُهُ ، بَلْ
هَذَا شَأْنُ مَخْلُوقِهِ الْمُحِيطِ بِمَا دُونَهُ ، فَإِنَّ كُلَّ خَطٍّ يَخْرُجُ
مِنَ الْمَرْكَزِ إِلَى الْمُحِيطِ ، فَإِنَّهُ يَسْتَقْبِلُ وَجْهَ الْمُحِيطِ
وَيُوَاجِهُهُ ، وَالْمَرْكَزُ يَسْتَقْبِلُ وَجْهَ الْمُحِيطِ ، وَإِذَا كَانَ
عَالِي الْمَخْلُوقَاتِ الْمُحِيطُ ، يَسْتَقْبِلُ سَافِلَهَا الْمُحَاطُ بِهِ
بِوَجْهِهِ ، مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ وَالْجَوَانِبِ ؛ فَكَيْفَ بِشَأْنِ مَنْ
هُوَ بكل شَيْءٍ مُحِيطٍ ، وَهُوَ مُحِيطٌ وَلَا يُحَاطُ بِهِ ، كَيْفَ يُمْتَنَعُ
أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْعَبْدُ وَجْهَهُ تَعَالَى حَيْثُ كَانَ ، وَأَيْنَ كَانَ ؟! "
انتهى من " مختصر الصواعق المرسلة " (1/417) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه
الله :
" يمكن الجمع بين ما ثبت من علو الله بذاته ، وكونه قِبَل المصلي من وجوه :
الأول: أن النصوص جمعت بينهما ، والنصوص لا تأتي بالمحال .
الثاني: أنه لا منافاة بين معنى العلو والمقابلة ، فقد يكون الشيء عالياً وهو مقابل
، لأن المقابلة لا تستلزم المحاذاة ، ألا ترى أن الرجل ينظر إلى الشمس حال بزوغها
فيقول : إنها قبل وجهي , مع أنها في السماء ، ولا يعد ذلك تناقضاً في اللفظ ولا في
المعنى ، فإذا جاز هذا في حق المخلوق ، ففي حق الخالق أولى .
الثالث : أنه لو فُرض أن بين معنى العلو والمقابلة تناقضاً وتعارضاً في حق المخلوق
؛ فإن ذلك لا يلزم في حق الخالق ، لأن الله تعالى ليس كمثله شيء في جميع صفاته ،
فلا يقتضي كونه قِبل وجه المصلي ، أن يكون في المكان أو الحائط الذي يصلي إليه ،
لوجوب علوه بذاته ، ولأنه لا يحيط به شيء من المخلوقات ، بل هو بكل شيء محيط " .
انتهى من " مجموع فتاوى ورسائل العثيمين " (4/ 51) .
وينظر جواب السؤال رقم : (40865) .
وقال الشيخ ابن عثيمين :
" أما كونه لا يبصق قِبَلَ وجهِهِ ، فلأن الله سبحانه وتعالى قِبَلَ وجهِهِ ، ما من
إنسان يستقبل بيتَ الله ليُصلِّي ، إلا استقبله الله بوجهه ، في أيِّ مكان ؛ لأن
الله تعالى بكلِّ شيء محيط ، كما قال تعالى : ( وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ
وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ
عَلِيمٌ ) البقرة/115 ، وليس من الأدب أن تبصُق بين يديك ، والله تعالى قِبَلَ وجهك
" انتهى من " الشرح الممتع " (3/ 269) .
ثانياً :
روى البخاري (509) ، ومسلم (505) عن أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ قَالَ : سَمِعْتُ
النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ
إِلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ ، فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ
يَدَيْهِ ، فَلْيَدْفَعْهُ ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ ، فَإِنَّمَا هُوَ
شَيْطَانٌ ) .
وروى أبو داود (695) عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ رضي الله عنه عن النَّبِيّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى سُتْرَةٍ
فَلْيَدْنُ مِنْهَا لَا يَقْطَعِ الشَّيْطَانُ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ ) وصححه الألباني
فتبين بذلك أن المنع من المرور بين يدي المصلي لا علاقة له بما ذكر من كون الرحمن
قِبل وجه المصلي ، وإنما مقصوده : منع مرور الشيطان بين يدي المصلي ، وأن يجمع
المصلي قلبه على صلاته فلا ينصرف إلى شيء سوى صلاته .
قال في " عون المعبود " (2/275) :
" أي : لا يفوت عليه حضورها بالوسوسة والتمكن منها ، واستفيد منه أن السترة تمنع
استيلاء الشيطان على المصلي ، وتمكنه من قلبه بالوسوسة ، إما كُلًّا ، أو بعضاً ،
بحسب صدق المصلي وإقباله في صلاته على الله تعالى ، وأنَّ عَدَمها يمكن الشيطان من
إزلاله عما هو بصدده من الخشوع والخضوع " انتهى .
وقال النووي رحمه الله :
" قال الْعُلَمَاءُ : وَالْحِكْمَةُ فِي السُّتْرَةِ كَفُّ الْبَصَرِ عَمَّا
وَرَاءَهُ ، وَمَنْعُ مَنْ يُجْتَازُ بِقُرْبِهِ " .
انتهى من " شرح مسلم " (4/216) .
وقال الكمال ابن الهمام رحمه الله :
" الْمَقْصُودُ جَمْعُ الْخَاطِرِ بِرَبْطِ الْخَيَالِ بِهِ كَيْ لَا يَنْتَشِرَ "
انتهى من " فتح القدير" (1/ 408) .
وينظر جواب السؤال رقم : (147415) .
والله تعالى أعلم .
تعليق