السبت 20 جمادى الآخرة 1446 - 21 ديسمبر 2024
العربية

شبهة حول وفاة رسول الله بالسم وانقطاع أبهره مع قول الله (لقطعنا منه الوتين)

261224

تاريخ النشر : 28-04-2018

المشاهدات : 47427

السؤال

هل توفي رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم أم استشهد بسم اليهودية ؟ وإن كان قد أُستشهد بسم اليهودية فكيف نرد على الشبهة المثارة حول كيفية التوفيق بين حديثه عليه الصلاة والسلام عندما خاطب أم المؤمنين عائشة عن شعوره بإنقطاع أبهره ، وبين الآية الكريمة ( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ) ؟

الحمد لله.

أولا:

أثر السم في وفاة النبي عليه الصلاة والسلام 

صرح جمع من أهل العلم بأن الله تعالى أكرم نبيه صلى الله عليه وسلم بالشهادة، فجمع له بين النبوة والرسالة والشهادة؛ لأن وفاته كانت بأثر السم الذي أكله يوم خيبر.

عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه : " أَنَّ امْرَأَةً يَهُودِيَّةً أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ ، فَأَكَلَ مِنْهَا ، فَجِيءَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَتْ : أَرَدْتُ لأَقْتُلَكَ، قَالَ : ( مَا كَانَ اللَّهُ لِيُسَلِّطَكِ عَلَى ذَاكِ )" رواه البخاري ( 2474 ) ، ومسلم (2190).

وعن عَائِشَةُ رضى الله عنها : " كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِى مَرَضِهِ الَّذِى مَاتَ فِيهِ : (يَا عَائِشَةُ ، مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِى أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ ، فَهَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِى مِنْ ذَلِكَ السَّمِّ ) " رواه البخاري ( 4165 ).

قال ابن القيم في " زاد المعاد " (4/111): " وَبَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثَ سِنِينَ حَتَّى كَانَ وَجَعُهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ ، فَقَالَ : ( مَا زِلْتُ أَجِدُ مِنَ الْأُكْلَةِ الَّتِي أَكَلْتُ مِنَ الشَّاةِ يَوْمَ خَيْبَرَ حَتَّى كَانَ هَذَا أَوَانَ انْقِطَاعِ الْأَبْهَرِ مِنِّي ) ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهِيدًا " انتهى .

وجاء في "شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية "(12 / 94): " ومن المعجزة أنه لم يؤثّر فيه في وقته ؛ لأنهم قالوا: إن كان نبيًّا لم يضره , وإن كان ملكًا استرحنا منه ، فلمَّا لم يؤثر فيه تيقنوا نبوته ، حتى قيل: إن اليهودية أسلمت ، ثم نقض عليه بعد ثلاث سنين لإكرامه بالشهادة" انتهى.

وينظر للفائدة جواب السؤال رقم: (223551).

ثانيا:

المقصود بقول الله تعالى: (لأخذنا منه باليمين* ثم لقطعنا منه الوتين) 

أما آيات سورة الحاقة، فيقول الله تعالى : (فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)) الحاقة/38- 52 .

وفي هذا الآيات إخبار من الله تعالى أن القرآن تنزيل من عنده، بلغه رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم إلى الناس، وأنه ليس شعرا، ولا كهانة، وأن محمدا ليس شاعرا ولا كاهنا ولا متقوّلا على الله، وأنه لو تقوّل على الله- وحاشاه- لعاجله الله بالعقوبة، وانتقم منه بالقوة والبطش، ثم أماته وأهلكه ، وأنه لا يقدر أحد أن يدفع عنه ذلك.

ثم أخبر أن القرآن حق، وأنه حسرة على الكافرين المكذبين.

فهذه الآيات فيها مدح للنبي صلى الله عليه وسلم وتبرئة له، فكيف يجعلها الجهال الضلال قدحا فيه؟!

وقد عاش النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا وعشرين سنة يبلغ الناس كلام الله، فلو تقوّل على الله بعض الأقاويل لأهلكه الله، وهذا لم يقع قط ، وما كان له أن يقع !

وهذا يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغ للناس سور القرآن كلها أمينا صادقا، ونسب إلى الله عشرات الأحاديث القدسية، وتكلم هو بآلاف الأحاديث التي يقول للناس إنها وحي من الله، فأكرمه الله، وأمدّه، وأعانه، ونصره، وكثّر أصحابه، وفتح له البلاد، وألان له قلوب العباد، وأيده بالمعجزات الباهرة، ولم يمته إلا بعد أن أكمل له دينه، وأتم عليه نعمته.

فهل يستريب عاقل أن الله لم يعاجله بعقوبة، ولم يبطش به، ولم ينتقم منه، وقد كان هذا وعيده لو تقول عليه.

وهل هذا يعني غير حقيقة واحدة: أنه صلى الله عليه وسلم كان صادقا أمينا في تبليغه كلام ربه على مدار ثلاث وعشرين سنة كاملة ؟! وأنه لم يتقوّل عليه كلمة واحدة في هذه المدة المديدة ؛ ولهذا لم يعجل الله هلاكه كما توعد من تقول عليه أو افترى على الله الكذب ؟!

فهل يعقل أنه بعد أن بلغ الدين كله، والقرآن كله، صادقا برا ، أمينا ؛ يعود فيكذب على الله ؟!

وهل هذا إلا كلام المجانين ، والمبرسمين ؟!

قال ابن عاشور رحمه الله في تفسير هذه الآيات: " فمفاد هذه الجملة : استدلال ثان على أن القرآن منزل من عند الله تعالى على طريقة المذهب الكلامي، بعد الاستدلال الأول المستند إلى القسم والمؤكدات ، على طريقة الاستدلال الخطابي.

وهو استدلال بما هو مقرر في الأذهان من أن الله واسع القدرة، وأنه عليم ؛ فلا يقرر أحدا على أن يقول عنه كلاما لم يقله ؛ أي : لو لم يكن القرآن منزلا من عندنا ، ومحمد ادعى أنه منزل منا= لما أقررناه على ذلك، ولعجلنا بإهلاكه.

فعدم هلاكه صلى الله عليه وسلم : دال على أنه لم يتقوله على الله ؛ فإن (لو) : تقتضي انتفاء مضمون شرطها ، لانتفاء مضمون جوابها...

ومعنى (لأخذنا منه باليمين) لأخذناه بقوة، أي دون إمهال ؛ فالباء للسببية...

والمعنى: لأخذناه أخذا عاجلا ، فقطعنا وتينه، وفي هذا تهويل لصورة الأخذ فلذلك لم يقتصر على نحو: لأهلكناه...

والوتين: عرق معلق به القلب ، ويسمى النياط، وهو الذي يسقي الجسد بالدم ، ولذلك يقال له: نهر الجسد، وهو إذا قطع مات صاحبه ، وهو يقطع عند نحر الجزور.

فقطع الوتين : من أحوال الجزور ونحرها ؛ فشبه عقاب من يفرض تقوله على الله ، بجزور تنحر فيقطع وتينها...

وهذه الآية دليل على أن الله تعالى لا يبقي أحدا يدعي أن الله أوحى إليه كلاما يبلغه إلى الناس، وأنه يعجل بهلاكه.

فأما من يدعي النبوءة دون ادعاء قول أوحي إليه، فإن الله قد يهلكه بعد حين ، كما كان في أمر الأسود العنسي الذي ادعى النبوءة باليمن، ومسيلمة الحنفي الذي ادعى النبوءة في اليمامة، فإنهما لم يأتيا بكلام ينسبانه إلى الله تعالى، فكان إهلاكهما بعد مدة، ومثلهما من ادعوا النبوءة في الإسلام مثل (بابك ومازيار) " انتهى من "التحرير والتنوير" (29/ 144- 148).

والجواب المختصر على هذه الشبهة الساقطة:

أن الآية فيها وعيد فوري عاجل بالعقوبة المهلكة ، لو تقول النبي بعض الأقاويل على الله.

لكن المعلوم المقطوع به : أن النبي صلى الله عليه وسلم صانه الله وحفظه ، وحاطه بعنايته ورعايته ، طول زمان بعثته ونبوته ، وهو يبلغ الناس عن ربه ، ويقول لهم : قال ربي ، وأمرني ربي ، ونهاني ربي ؛ ولم يكذبه الله ولا مرة واحدة ، ولم يخفر له ذماما ، ولا أخلف له كلاما ؛ فضلا عن أن ينزل عليه عقابا ، أو يذيقه من جراء ذلك حماما !!

فكان هذا دليلا قاطعا : على أنه لم يقع منه تقوّل ، ولا كذب، وحاشاه.

ثم لو كان متقولا أو كاذبا على الله ، وحاشاه ؛ لكان أيسر شيء عليه ، وأقرب ما يفعله : أن يحذف هذه الآية ، أو يكتهما ولا يبلغها ، إن كانت من الله !!

أو أدنى قول القائل : ألا يقول ما يدينه ، ويكذبه ؛ فما حاجته من يدعي النبوة ، ويأتي بمثل هذا لقرآن ، ويقول إنه من عند الله ؛ ما حاجته إلى أن "يخترع" مثل هذه الآية ، ويتوعد فيها نفسه ، ويدينها ؟!

فأين يذهبون ؟ وأنى يؤفكون ؟

فسبحان من جعل من كذب الكاذبين ، وتخرص المتخصرين ، دليلا على صدق خاتم النبيين ، وسيد المرسلين .

ولو كان متقولا أو كاذبا لما قال عند موته: هذا أوان انقطاع أبهري! ولما أشار إلى ذلك أدنى إشارة!

وبعيدا عن هذه الشبهة الساقطة نقول: إن من الطعن في الله تعالى أن يقال: جاء رجل فادعى النبوة، وتقول عليه، ونسب إليه الكذب، ثم عاش ثلاثا وعشرين سنة ينشر ذلك، وربه ينصره ويؤيده ويحميه ويقويه ويفتح له ويؤيده خلال ذلك بالمعجزات الباهرات ، التي يعجز عنها البشر!

فهذا محال، وهو أعظم طعن في الله.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :

" سنته في الأنبياء الصادقين وأتباعهم من المؤمنين ، وفي الكذابين بالحق :

أن هؤلاء : ينصرهم ويبقي لهم لسان صدق في الآخرين .

وأولئك : ينتقم منهم ، ويجعل عليهم اللعنة.

فبهذا وأمثاله : يُعلم أنه لا يؤيد كذابا بالمعجزة لا معارض لها، لأن في ذلك من الفساد والضرر بالعباد : ما تمنعه رحمته، وفيه من سوء العاقبة : ما تمنعه حكمته، وفيه من نقض سنته المعروفة ، وعادته المطردة : ما تُعلم به مشيئته، قال تعالى: ( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ * لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ ) . وقال تعالى:  ( وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا * إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً ) ..." .

انتهى من "شرح الأصفهانية" (214-216) .

وقال أيضا :

" وقد دلّ القرآن على أنّه سبحانه لا يؤيّد الكذّاب عليه، بل لا بُدّ أن يظهر كذبه، وأن ينتقم منه.

فقال تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيل لأَخَذْنَا مِنْهُ بِاليَمِين ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوَتِين فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ؛ ذكر هذا بعد قوله: فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُون * وَمَا لا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيم * وَمَا هُو بِقَولِ شَاعِرٍ * قليلاً ما تُؤْمِنُون * وَلا بِقَولِ كَاهِنٍ * قَليلاً مَا تَذَكَّرُون * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ العَالَمِينَ ، ثمّ قال: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيل * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِاليَمِين * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوَتِين * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ .

هذا بتقدير أن يتقوّل بعض الأقاويل ؛ فكيف بمن يتقوَّل الرِّسَالَة كلها ؟!! ...

وقال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبَاً فَإِنْ يَشَأ اللهُ يَخْتِم عَلَى قَلْبِكَ ، ثمّ قال : وَيَمْحُ اللهُ البَاطِلَ وَيُحِقُّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ .

فقوله: وَيَمْحُ اللهُ البَاطِلَ : عطف جملة على جملة .. ، وليس من جواب الشرط؛ لأنّه قال: وَيُحِقُّ الحَقّ ب الضمّ، وهو معطوف على قوله: وَيَمْحُ اللهُ البَاطِلَ .

فمحوه للباطل، وإحقاقه الحق: خبرٌ منه، لا بُدّ أن يفعله؛ فقد بيَّن أنّه لا بُدّ أن يمحو الباطل، ويحقّ الحقّ بكلماته؛ فإنّه إذا أنزل كلماته، دلّ بها على أنّه نبيّ صادق؛ إذ كانت آية له، وبيّن بها الحق من الباطل...

وهو أيضاً يُحِقّ الحقّ، ويُبطل الباطل بكلماته التي تكون بها الأشياء؛ فيُحِقّ الحقّ بما يظهره من الآيات، وما ينصر به أهل الحقّ، كما تقدّمت كلمته بذلك، كما قال: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ .

وقال: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقَاً وَعَدْلاً ...

فمن عدله: أن يجعل الصادق عليه، المبلغ لرسالته، حيث يصلح من كرامته ونصره، وأن يجعل الكاذب عليه، حيث يليق به من إهانته وذلّه. قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا العِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُفْتَرِينَ .

قال أبو قلابة: هي لكلّ مفترٍ إلى يوم القيامة ...

والاستدلال بالحكمة : أن يعرف أولاً حكمته .

ثمّ يعرف : أنّ من حكمته أنّه لا يُسوّي بين الصادق ، بما يظهر به صدقه، وبأن ينصره، ويعزّه، ويجعل له العاقبة، ويجعل له لسان صدقٍ في العالمين.

والكاذب عليه: يُبيّن كذبه، ويخذله، ويذله، ويجعل عاقبته عاقبة سوء، ويجعل له لسان الذمّ واللعنة في العالمين، كما قد وقع.

فهذا هو الواقع، لكن المقصود أن نبيّن أنّ ما وقع منه، فهو واجب الوقوع في حكمته، لا يجوز أن يقع منه ضدّ ذلك. فهذا استدلال ببيان أنه يجب أن يقع منه ما يقع، ويمتنع أن يقع منه ضده، وذلك ببيان أنّه حكيم، وأنّ حكمته توجب أن يُبيّن صدق الأنبياء وينصرهم، ويُبيّن كذب الكاذبين ويذلهم... " .

ينظر : "النبوات" لشيخ الإسلام رحمه الله (2/897) وما بعدها .

وحاصل ذلك كله :

أنه لا يوجد من يدعي النبوة ويكذب على الله ثم يمهله الله هذا الإمهال، وينصره هذا النصر، ويتوفاه راضيا قرير العين!

ثم إن المعجزة لا تزال باقية... فأين المدّعون المفترون؟

هذا القرآن العظيم لو كان من كلام محمد صلى الله عليه وسلم لما عجز فصحاء العرب عن الإتيان بمثله، لا في القديم ولا في الحديث، فهلموا يا مشعر المعاندين للتحدي مرة أخرى، فهاتوا سورة مثل سور القرآن!

إن من له أدنى معرفة بلغة العرب يدرك الفرق العظيم بين آلاف الأحاديث التي تكلم بها النبي صلى الله عليه وسلم، وبين هذا القرآن المعجز، الذي لا يستطيع محمد صلى الله عليه وسلم ولا غيره أن يأتي بمثله.

ولو كان محمد صلى الله عليه وسلم كاذبا أو مدعيا، لادعى هذا القرآن لنفسه، فنال بذلك عند العرب مكانة لا ينالها أحد، إذ قد أقروا جميعا أنه كلام فوق الكلام، ولكنه النبي الكريم الصادق صلى الله عليه وسلم، ما كان ليدع الكذب على الناس ثم يكذب على الله.

نعود فنقول: قد عمي الجهال عما في قصة الشاة من المعجزة، فمن أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنها مسمومة، ومن حماه من الموت في الحال ، كما مات صاحبه البراء بن معرور رضي الله عنه؟!

ومن تمام الجواب أن نقول: إن الوتين ليس هو الأبهر!

فالوتين (الشريان الرئيس) وأما الأبهر فوريد من الأوردة!

ففي "المعجم الوسيط"(2/ 1010): " (الوتين) الشريان الرئيس الَّذِي يغذي جسم الْإِنْسَان بِالدَّمِ النقي الْخَارِج من الْقلب".

وفيه (1/ 73): " (الأبهران) : الوريدان اللَّذَان يحْملَانِ الدَّم من جَمِيع أوردة الْجِسْم إِلَى الأذين الْأَيْمن من الْقلب" انتهى.

وقال بعض الرواة للحديث إنه عرق في الظهر. ينظر "فتح الباري" (8/ 131).

ونختم بهذه المناظرة النافعة في إثبات نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم تتصل بما ذكرنا.

قال ابن القيم رحمه لله في كتابه "هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى" (ص 201):

" وقد جرت لي مناظرة مع أكبر من تشير إليه اليهود بالعلم والرئاسة، فقلت له في أثناء الكلام: إنهم بتكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم : قد شتمتم الله أعظم شتيمة !!

فعجب من ذلك، وقال: مثلك يقول هذا الكلام؟!

فقلت له: اسمع الآن تقريره:

إذا قلتم: إن محمدا ملك ظالم قهر الناس بسيفه، وليس برسول من عند الله، وقد أقام ثلاثا وعشرين سنة يدعي أنه رسول الله أرسله إلى الخلق كافة، ويقول: أمرني الله بكذا ، ونهاني عن كذا وأوحي إلي كذا، ولم يكن من ذلك شيء.

ويقول: إنه أباح لي سبي ذراري من كذبني وخالفني ونساءهم، وغنيمة أموالهم، وقتل رجالهم، ولم يكن من ذلك شيء .

وهو يدأب في تغيير دين الأنبياء ومعاداة أممهم ونسخ شرائعهم ؟

فلا يخلو إما أن تقولوا:

إن الله سبحانه وتعالى كان يطلع على ذلك ، ويشاهده ويعلمه، أو تقولوا: إنه خفي عنه ولم يعلم به.

فإن قلتم: لم يعلم به نسبتموه إلى أقبح الجهل، وكان من علم ذلك أعلم منه.

وإن قلتم: بل كان كله بعلمه ومشاهدته واطلاعه عليه، فلا يخلو: إما أن يكون قادرا على تغييره، والأخذ على يديه ومنعه من ذلك، أو لا.

فإن لم يكن قادرا، فقد نسبتموه إلى أقبح العجز المنافي للربوبية.

وإن كان قادرا، وهو مع ذلك يعزه وينصره ويؤيده ، ويعليه ويعلي كلمته، ويجيب دعاءه ويمكنه من أعدائه، ويظهر على يديه من أنواع المعجزات والكرامات ما يزيد على الألف، ولا يقصده أحد بسوء إلا ظفر به، ولا يدعوه بدعوة إلا استجابها له، فهذا من أعظم الظلم والسفه الذي لا يليق نسبته إلى آحاد العقلاء، فضلا عن رب الأرض والسماء، فكيف وهو يشهد له بإقراره على دعوته وتأييده بكلامه، وهذه عندكم شهادة زور وكذب؟

فلما سمع ذلك، قال: معاذ الله أن يفعل الله هذا بكاذب مفتر، بل هو نبي صادق ، من اتبعه أفلح وسعد.

قلت: فما لك لا تدخل في دينه؟

قال: إنما بعث للأميين الذين لا كتاب لهم، وأما نحن فعندنا كتاب نتبعه.

قلت له: غُلبت كل الغَلب، فإنه قد علم الخاص والعام أنه أخبر أنه رسول الله إلى جميع الخلق، وأن من لم يتبعه فهو كافر من أهل الجحيم، وقاتل اليهود والنصارى وهم أهل كتاب، وإذا صحت رسالته ، وجب تصديقه في كل ما أخبر به !!

فأمسك ، ولم يُحِر جوابا" انتهى.  

والحمد لله على نعمة الإسلام.

والله أعلم.


 

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب