الحمد لله.
أولا:
للنبي صلى الله عليه وسلم معجزات كثيرة أيده الله تعالى بها، وأعظمها القرآن، وهو المعجزة الباقية إلى آخر الزمان، وهذا لا ينفي وجود معجزات كثيرة، ثابتة بالقرآن وبالسنة الصحيحة.
وليس في القرآن أن الله لم يؤيد نبيه بمعجزة غير القرآن، كما ظننت، بل يخبر الله تعالى ، أنه قد لا يستجيب لطلب الكفار المعجزة، لأنهم يسألونها تعنتا، أو يخبر أنه لو أجابهم ولم يؤمنوا لأهلكهم، وهذا لا يمنع أن يؤيده بمعجزة من غير سؤال منهم، كمعجزة الإسراء والمعراج، أو بطلب منهم كانشقاق القمر.
ثم تأتي بعد ذلك معجزات كثيرة، لم تكن للكفار أصلا، بل كانت للمؤمنين، إكراما لنبيه، وتثبيتا لأصحابه، كتسبيح الحصى في يده، وسلام الحجر عليه، وحنين الجذع إليه، وتكثير الطعام في يده، ونبع الماء من بين أصابعه، وشكاية الجمل له، وغير ذلك.
وهناك مؤلفات اهتمت بجمع معجزاته صلى الله عليه وسلم، كدلالئل النبوة للبيهقي، و"البداية والنهاية" لابن كثير في ختام الكلام على سيرة النبي صلى الله عليه وسلم. ومن الكتب المعاصرة المفيدة في ذلك : "الصحيح المسند من دلائل النبوة"، للشيخ مقبل بن هادي الوادعي، رحمه الله.
وينظر: جواب السؤال رقم : (103514) .
ثانيا:
أما الآية 59 من سورة الإسراء وهي قوله تعالى: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا الإسراء/59
فقد جاء تفسيرها عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا، وأن ينحي الجبال عنهم فيزرعوا، فقيل له: إن شئت أن نستأني بهم، وإن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا أهلكوا كما أهلكت من كان قبلهم من الأمم؟
قال: (لا ؛ بل استأن بهم) وأنزل الله: (وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة). ينظر: "تفسير ابن كثير" (5/ 90).
ففيه أن الله تعالى خيّر نبيه في إجابتهم طلبهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد ذلك رحمة بقومه وخوفا أن يهلكهم الله إذا لم يؤمنوا.
وليس فيه إخبار أنه لن يعطيه معجزة أخرى، إذا عادوا فطلبوا.
وأما الآية 37 من سورة الأنعام، وهي قوله تعالى: وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الأنعام/37 .
ففيها أن الله لم يجب طلبهم أيضا، لكن لم يقل: إن هذا لن يكون، بل أخبر أنه قادر على ذلك، ولكن حكمته تعالى تقتضي عدم إجابتهم في كل ما طلبوا، لأنهم إنما طلبوا ذلك تعنتا، لا اهتداء؛ وإلا ، فلو كان مرادهم طلب الهدى، لكان لهم من هداية القرآن العظيم، ما هو أجل وأعظم من كل آية طلبوها.
قال العلامة الأمين الشنقيطي رحمه الله : " قوله تعالى: ( قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون ): ذكر في هذه الآية الكريمة: أنه قادر على تنزيل الآية التي اقترحها الكفار على رسوله. وأشار لحكمة عدم إنزالها بقوله: ( ولكن أكثرهم لا يعلمون ) [6 37] .
وبين في موضع آخر : أن حكمة عدم إنزالها: أنها لو أنزلت ، ولم يؤمنوا بها : لنزل بهم العذاب العاجل، كما وقع بقوم صالح لما اقترحوا عليه إخراج ناقة عشراء، وبراء، جوفاء، من صخرة صماء، فأخرجها الله لهم منها بقدرته ومشيئته، فعقروها ، ( وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا ) [7 77] ، فأهلكهم الله دفعة واحدة بعذاب استئصال، وذلك في قوله: ( وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا ) [17 59] .
وبين في مواضع أخر : أنه لا داعي إلى ما اقترحوا من الآيات ؛ لأنه أنزل عليهم آية أعظم من جميع الآيات التي اقترحوها وغيرها، وتلك الآية هي هذا القرآن العظيم ؛ وذلك في قوله: ( أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ) [29 51] .
فإنكاره جل وعلا عليهم عدم الاكتفاء بهذا الكتاب عن الآيات المقترحة : يدل على أنه أعظم وأفخم من كل آية، وهو كذلك ؛ ألا ترى أنه آية واضحة، ومعجزة باهرة، أعجزت جميع أهل الأرض، وهي باقية تتردد في آذان الخلق غضة طرية حتى يأتي أمر الله، بخلاف غيره من معجزات الرسل - صلوات الله عليهم وسلامه - فإنها كلها مضت وانقضت" .
انتهى من "أضواء البيان" (1/477).
وإنما يكون التعارض لو قال القرآن: إن الله لن يؤيدك بمعجزة ، أو لن يؤيدك بغير القرآن ، أو لن يجيب الكفار إلى معجزة أبدا.
وهذا لا يوجد في القرآن.
وأما الآية (7) من سورة الرعد، وهي قوله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ الرعد/7
ففيها بيان أن الرسول ليس من مهمته الإتيان بالآيات، فهذا أمره إلى الله، وإنما مهمته الإنذار والبلاغ.
وهذا المعنى العظيم وهو أن النبي لا يملك الآيات- لا القرآن ولا غيره-: مقرر في كتاب الله، لتتعلق القلوب بخالقها وبارئها، فالآية والمعجزة يأتي بها الله في الوقت الذي يشاؤه سبحانه.
قال الله في شأن القرآن: قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ يونس/16 .
وقال تعالى: وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ العنكبوت/50، 51 .
وهذا تعجيب من حال المشركين وطلبهم للآيات، مع أنهم يرون أعظم آية وهي القرآن، وهم عاجزون عن الإتيان بشيء من مثله مع ما عرفوا به من الفصاحة، وهذا دليل على أن طلبهم الآيات ليس إلا للتعنت والعناد. وليس فيه أن الله لن يؤيد نبيه بآية أخرى، أو لن يجيب طلبهم إلى آية مستقبلا.
وأما الآية (20) من سورة يونس، وهي قوله: وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ يونس/20 .
ففيها تأكيد المعنى السابق وهو أن أمر الآيات إلى الله تعالى، وأن يفعل ذلك حين يشاء.
وأما قوله: فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ فالمراد منها: انتظروا حكم الله وقضاءه بيني وبينكم. وليس المراد فانتظروا معجزة.
قال ابن جرير الطبري رحمه الله: " (فقل) يا محمد (إنما الغيب لله) ، أي: لا يُعلم أحدٌ يفعل ذلك إلا هو جل ثناؤه، لأنه لا يعلم الغيب = وهو السرُّ والخفيّ من الأمور = إلا الله، فانتظروا أيها القوم، قضاءَ الله بيننا، بتعجيل عقوبته للمبطل منا، وإظهاره المحقَّ عليه، إني معكم ممن ينتظر ذلك. ففعل ذلك جل ثناؤه، فقضى بينهم وبينه بأن قتلهم يوم بدرٍ بالسيف" انتهى من "تفسير الطبري" (15/ 48).
وقال ابن كثير رحمه الله: " يقول تعالى: إن سنتي في خلقي: أني إذا آتيتهم ما سألوا، فإن آمنوا، وإلا عاجلتهم بالعقوبة.
ولهذا، لما خير رسول الله، عليه الصلاة والسلام، بين أن يُعطَى ما سألوا، فإن أجابوا وإلا عوجلوا، وبين أن يتركهم ويُنظِرهم؛ اختار إنظارهم، كما حلم عنهم غير مرة، صلوات الله عليه؛ ولهذا قال تعالى إرشادا لنبيه إلى الجواب عما سألوا: فقل إنما الغيب لله أي: الأمر كله لله، وهو يعلم العواقب في الأمور، فانتظروا إني معكم من المنتظرين أي: إن كنتم لا تؤمنون حتى تشاهدوا ما سألتم، فانتظروا حكم الله فيَّ وفيكم.
هذا مع أنهم قد شاهدوا من معجزاته، عليه السلام أعظم مما سألوا، حين أشار بحضرتهم إلى القمر ليلة إبداره، فانشق باثنتين، فرقة من وراء الجبل، وفرقة من دونه. وهذا أعظم من سائر الآيات الأرضية، مما سألوا وما لم يسألوا.
ولو علم الله منهم أنهم سألوا ذلك استرشادا وتثبتا، لأجابهم، ولكن علم أنهم إنما يسألون عنادا وتعنتا، فتركهم فيما رابهم، وعلم أنهم لا يؤمن منهم أحد، كما قال تعالى: إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم [يونس: 96، 97] ، وقال تعالى: ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون [الأنعام: 111] ، ولما فيهم من المكابرة، كما قال تعالى: ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون [الحجر: 14، 15] ، وقال تعالى: وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم [الطور: 44] ، وقال تعالى: ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين [الأنعام: 7] ، فمثل هؤلاء أقل من أن يُجابوا إلى ما سألوه؛ لأنه لا فائدة في جواب هؤلاء؛ لأنه دائر على تعنتهم وعنادهم، لكثرة فجورهم وفسادهم؛ ولهذا قال: فانتظروا إني معكم من المنتظرين" انتهى من "تفسير ابن كثير" (4/ 256).
والحاصل:
أنه ليس في القرآن نفي لتأييد النبي صلى الله عليه وسلم بالمعجزات، ولا إخبار بأن الله لن يجيب الكفار إلى طلبهم في المستقبل، ولهذا أجابهم لما طلبوا آية، فأراهم القمر شقين.
ثالثا:
معجزة انشقاق القمر، ثابتة في القرآن والسنة، كما قال تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ، وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ القمر/1 - 2.
وروى البخاري (3868)، ومسلم (2802) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، " أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً، فَأَرَاهُمُ القَمَرَ شِقَّتَيْنِ، حَتَّى رَأَوْا حِرَاءً بَيْنَهُمَا".
وأما قولك بأن هذه المعجزة لم ينقلها غير المسلمين الخ، فقد سبق الجواب عنه، وينظر: جواب السؤال رقم : (285427) .
وقارن هذه المعجزة التي ينقلها كتاب معجز محفوظ ، مع أحاديث ثابتة بنقل العدل الثقة عن مثله إلى الصحابة الذي شاهدوها بأعينهم ، قارن هذا بما تؤمن به من معجزات للأنبياء، لم تنقل بإسناد متصل، ووردت في كتاب دخلته الترجمة والتحريف، وكتب بعد حدوث الواقعة بعشرات السنين.
وإنا لندعوك إلى النظر في أصل الأصول وهو التوحيد، واستحالة أن يكون الله له ولد، أو شريك، وأن يحل الإله في جسد أو أن يكل ويشرب ويقتل ويصلب، كما ندعوك للنظر في التناقضات العظيمة التي اشتمل عليها "العهد الجديد" مما يقطع معها بأنه من كلام البشر، لا من كلام الله تعالى، ولا بوحي منه.
وننصحك في هذا الخصوص بقراءة كتاب: "إظهار الحق" للشيخ محمد رحمت الله الهندي، وستجد فيها ما يشفي ويكفي.
ثم ندعوك إلى قراءة القرآن، وتفهم معانيه، وتأمل ما اشتمل عليه من الحقائق والأخبار والعلوم والدقائق التي يستحيل أن يأتي بها إنسان مهما بلغ شأنه من العلم والأخذ عن غيره، فضلا عمن كان أميا لا يقرأ ولا يكتب.
ونسأل الله أن ينير قلبك، ويشرح صدرك للهدى ودين الحق، والتمسك به.
والله أعلم.
تعليق