الحمد لله.
أولا:
الأنبياء معصومون من الشك ومن الكفر
الأنبياء معصومون من الشك ، ومن الكفر بالله ، حتى قبل البعثة، كما سبق بيان ذلك في جواب السؤال رقم (317529).
وإبراهيم عليه السلام آتاه الله رشده من صغره، كما قال: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ الأنبياء/51 ، أي من قبل بلوغه، كما جاء عن ابن عباس. وينظر: "زاد المسير" لابن الجوزي (3/ 194).
فلم يقع منه شك صلى الله عليه وسلم، وإنما أراد أن (يرى) كيف يحيي الله الموتى، لينتقل من علم اليقين، إلى عين اليقين، فليس الخبر كالمعاينة.
قال الألوسي رحمه الله :
" مراتب اليقين متفاوتة إلى : علم اليقين ، وحق اليقين ، وعين اليقين ، مع أنها لا شك معه" انتهى من "روح المعاني" (2694) .
وقال البيضاوي في تفسيره : " ثم لترونها عين اليقين أي الرؤية التي هي نفس اليقين ، فإن علم المشاهدة أعلى مراتب اليقين" انتهى .
قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ البقرة/260
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره (1/ 689): " ذَكَرُوا لِسُؤَالِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَسْبَابًا، مِنْهَا: أَنَّهُ لَمَّا قَالَ لِنُمْرُوذَ: (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) أَحَبَّ أَنْ يَتَرَقَّى مِنْ عِلْمِ الْيَقِينِ فِي ذَلِكَ، إِلَى عَيْنِ الْيَقِينِ، وَأَنْ يَرَى ذَلِكَ مُشَاهِدَةً فَقَالَ: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)" انتهى.
والآية نفسها تدل على عدم حصول الشك، من وجهين:
1-أنه لو كان شاكا لكان السؤال بـ (هل)، فيقول: هل تحيي الموتى؟ ولكنه سأل بـ (كيف) ، فقال: ( أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى ) ؛ فهو مؤمن بحصول الإحياء قطعا، ويريد أن يرى كيف يحصل. ولهذا أراه الله صورة هذا الإحياء.
2- أن الله سبحانه سأله (أو لم تؤمن؟) فلما أجاب ب (بلى) صدقه على ذلك.
ثانيا:
توضيح معنى قول النبي ﷺ : (نحن أحق بالشك من إبراهيم)
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم : (نحن أحق بالشك من إبراهيم) فهو نفي للشك عنهما، أي أنا لا أشك، ولو قدر لأحدٍ منا أن يشك ، لكان الشك أقرب إلينا من أن يبلغ إلى إبراهيم عليه السلام ؛ تواضعا منه صلى الله عليه وسلم.
والحديث رواه البخاري (4537)، ومسلم (151) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ)، إِذْ قَالَ: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: 260]
قال النووي في "شرح مسلم" (2/ 183): " اختلف العلماء في معنى نحن أحق بالشك من إبراهيم على أقوال كثيرة، أحسنها وأصحها : ما قاله الإمام أبو إبراهيم المزني صاحب الشافعي، وجماعات من العلماء: معناه: أن الشك مستحيل في حق إبراهيم؛ فإن الشك في إحياء الموتى لو كان متطرقا إلى الأنبياء، لكنت أنا أحق به من إبراهيم؛ وقد علمتم أني لم أشك، فاعلموا أن إبراهيم عليه السلام لم يشك.
وإنما خص إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، لكون الآية قد يسبق إلى بعض الأذهان الفاسدة منها: احتمال الشك. وانما رجح إبراهيم على نفسه صلى الله عليه وسلم، تواضعا، وأدبا. أو قبل أن يعلم صلى الله عليه وسلم أنه خير ولد آدم" انتهى.
وقال الخطابي رحمه الله في "شرح البخاري" (3/ 1545): " مذهب هذا الحديث : التواضع والهضم من النفس .
وليس في قوله:" نحن أحقُّ بالشَّكِّ من إبراهيم " : اعتراف بالشك على نفسه، ولا على إبراهيم عليه السلام؛ لكن فيه نفيُ الشك عن كل واحد منهما؛ يقول: إذا لم أشكُّ أنا، ولم أرتب في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى؛ فإبراهيم أولى بأن لا يشكَّ فيه، وأن لا يرتاب.
وينظر جواب السؤال رقم: (331637).
وفيه: الإعلام أن المسألة من قِبَل إبراهيم، لم تعرض من جهة الشك، لكن من قِبَل طلب زيادة العلم، واستفادة معرفة كيفية الإحياء. والنفس تجد من الطمأنينة بعلم الكيفية ، مالا تجده بعلم الإنيَّة، والعلم في الوجهين حاصل والشك مرفوع" انتهى.
إنية الشيء: أي ثبوتُه، ووجوده .
والحاصل:
أن طمأنينة القلب لا يلزم أن تكون عن شك، بل تكون لزيادة اليقين، الذي يحصل بالمشاهدة بعد الخبر.
ثالثا:
هل شك الحواريون في قدرة الله بإنزال المائدة عليهم ؟
ما جاء عن الحواريين هو من نفس الباب، يريدون المشاهدة، لينتقلوا من العلم النظري ، إلى العلم الضروري الناتج عن الحس والمشاهدة، فيزدادوا يقينا.
قال تعالى: إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ المائدة/112، 113.
فالحواريون لم يشكوا في قدرة الله، وقد أثبت الله لهم الإيمان قبلها فقال: ( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ) المائدة/111.
والذي يؤمن بالله ، وبأنه خلق عيسى بن مريم عليه السلام، من أم دون أب، هل يشك في قدرته على إنزال مائدة من السماء؟!
وأما تعبير (هل يستطيع) فيراد به التلطف والتودد في الطلب، أي هل يفعل ربك ذلك، كما جاء فيما روى البخاري (185) عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى المَازِنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَجُلًا، قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، وَهُوَ جَدُّ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى: أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُرِيَنِي، كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ: نَعَمْ، فَدَعَا بِمَاءٍ، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَ مَرَّتَيْنِ،..." الحديث.
فلا يشك السائل أن عبد الله بن زيد يستطيع ذلك، ولكنه تلطف في السؤال.
قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (1/ 291): "قوله (أتستطيع) فيه ملاطفة الطالب للشيخ ؛ وكأنه أراد أن يريه بالفعل ، ليكون أبلغ في التعليم" انتهى.
ولكن لما كان في ظاهر اللفظ بشاعة، أجابهم عيسى عليه السلام بقوله: ( اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ).
أو أنه قال ذلك، لأن سؤال نزول الآيات، ليس محمودا.
ثم إن الآية فيها قراءة أخرى وهي: (هل تستطيع ربَّك) أي هل تستطيع أن تدعو ربك.
وأيضا، فيستطيع تأتي بمعنى يُطيع، أي هل يطيعك ربك لو سألته.
قال البغوي في تفسيره (3/ 117): " ( إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ ): قَرَأَ الْكِسَائِيُّ "هَلْ تَسْتَطِيعُ" بِالتَّاءِ "رَبَّكَ" ، بِنَصْبِ الْبَاءِ ، وَهُوَ قِرَاءَةُ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ، أَيْ: هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَدْعُوَ وَتَسْأَلَ رَبَّكَ؟
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ : ( هَلْ يَسْتَطِيعُ ) بِالْيَاءِ وَ: ( رَبُّكَ ) بِرَفْعِ الْبَاءِ. وَلَمْ يَقُولُوهُ شَاكِّينَ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَكِنْ مَعْنَاهُ: هَلْ يُنَزِّلُ رَبُّكَ أَمْ لَا؟ كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِصَاحِبِهِ : هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَنْهَضَ مَعِي، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسْتَطِيعُ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ: هَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟
وَقِيلَ: يَسْتَطِيعُ ، بِمَعْنَى : يُطِيعُ. يُقَالُ: أَطَاعَ ، وَاسْتَطَاعَ : بِمَعْنًى وَاحِدٍ، كَقَوْلِهِمْ: أَجَابَ وَاسْتَجَابَ، مَعْنَاهُ: هَلْ يُطِيعُكَ رَبُّكَ بِإِجَابَةِ سُؤَالِكَ؟ وَفِي الْآثَارِ: مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ أَطَاعَهُ اللَّهُ" انتهى.
وقال ابن عطية في تفسيره (2/ 259): " وقرأ جمهور الناس (هل يستطيع ربّك) بالياء ورفع الباء من ربك. وهي قراءة السبعة حاشا الكسائي، وهذا ليس لأنهم شكوا في قدرة الله على هذا الأمر، لكنه بمعنى: هل يفعل تعالى هذا، وهل تقع منه إجابة إليه؟ وهذا كما قال لعبد الله بن زيد: هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟ فالمعنى هل يخف عليك وهل تفعله؟
أما إن في اللفظة بشاعة، بسببها قال عيسى: (اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، وبسببها مال فريق من الصحابة وغيرهم إلى غير هذه القراءة، فقرأ علي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل وابن عباس وعائشة وسعيد بن جبير: (هل تستطيع ربّك) بالتاء ونصب الباء من ربك. المعنى هل تستطيع أن تسأل ربك؟ قالت عائشة رضي الله عنها: كان الحواريون أعرف بالله من أن يقولوا هل يستطيع ربك.
قال القاضي أبو محمد: نزهتهم عائشة عن بشاعة اللفظ ؛ وإلا فليس يلزمهم منه جهل بالله تعالى على ما قد تبين آنفا...
قال القاضي أبو محمد: وقد يمكن أن يستغنى عن تقدير سؤال، على أن يكون المعنى: هل يستطيع أن يُنزل ربك بدعائك ، أو بأثرتك عنده ، ونحوه هذا، فيُردّ المعنى ولا بد إلى مقدر يدل عليه ما ذكر من اللفظ...
ويظهر من قوله عليه السلام: (اتَّقُوا اللَّهَ ) : إنكار لقولهم ذلك، وذلك على قراءة من قرأ يستطيع بالياء من أسفل متوجه على أمرين: أحدهما: بشاعة اللفظ، والآخر إنكار طلب الآيات والتعرض إلى سخط الله بها، والنبوات ليست مبنية على أن تتعنت.
وأما على القراءة الأخرى : فلم ينكر عليهم إلا الاقتراح ، وقلة طمأنينتهم إلى ما قد ظهر من آياته.
فلما خاطبهم عليه السلام بهذه المقالة، صرحوا بالمذاهب التي حملتهم على طلب المائدة، فقالوا:
نريد أن نأكل منها ..." انتهى.
وإذا كان ضعاف الإيمان من أمثالنا لا يشكون في قدرة الله على إنزال المائدة ؛ فكيف بالحواريين صفوة أتباع عيسى عليه السلام، فنحن أحق بالشك منهم !
هذا ، وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الحواريين كانوا شاكين في قدرة الله تعالى، أو جاهلين بذلك.
ينظر "تفسير ابن جرير" (11/222) ، و"مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (20/36) ، (8/374) .
ولكن هذا بمجرده لا يعابون به، لأنهم سألوا لإزالة ما بنفوسهم من شك، وحصل لهم ذلك ، ولذلك استحقوا ثناء الله عليهم .
قال الله تعالى : فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمْ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آل عمران/52 .
والله أعلم.
تعليق