الحمد لله.
أولا:
معنى الإيمان بالغيب
لا شك أن الإيمان بالغيب هو مدار اختبار إيمان العباد.
قال الله تعالى: الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ البقرة/1 – 3.
والغيب يتناول كل أمر غاب عن حواس العبد، ويتناول هنا كل ما أخبر به الوحي، مما كان وما هو كائن وهو غائب عنا، كعالم الملائكة والبرزخ وما سيكون كيوم القيامة، وما فيها من حساب وعذاب و نعيم.
فالغيب يتناول أسس الإيمان.
قال الواحدي رحمه الله تعالى:
" وقوله تعالى: ( بِالْغَيْبِ )، الغيب: مصدر غاب يغيب غيبا، وكل ما غاب عنك فلم تشهده فهو غيب، قال الله تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ )، والعرب تسمى المطمئن من الأرض: الغيب، لأنه غاب عن الأبصار...
قال أبو العالية في قوله: ( يُؤمِنوُنَ بِالغيَب )، قال: يؤمنون بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وجنته، وناره، ولقائه، وبالبعث بعد الموت.
وكأن هذا إجمال ما فصل في قوله: ( كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ )...
قال أبو إسحاق: وكل ما غاب عنهم، مما أخبرهم به النبي صلى الله عليه وسلم: فهو غيب.
هذا طريق المفسرين في معنى (الغيب) " انتهى من"البسيط" (2/ 68-71).
وقال القرطبي رحمه الله تعالى:
" وهذا هو الإيمان الشرعي المشار إليه في حديث جبريل عليه السلام حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ( فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ، قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ. قَالَ: صَدَقْتَ ). وذكر الحديث " انتهى من "تفسير القرطبي" (1/252).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" وأصل الإيمان: هو الإيمان بالغيب، كما قال تعالى: (الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ).
والغيب الذي يؤمن به ما أخبرت به الرسل من الأمور العامة، ويدخل في ذلك الإيمان بالله وأسمائه وصفاته وملائكته والجنة والنار، فالإيمان بالله وبرسله وباليوم الآخر يتضمن الإيمان بالغيب؛ فإن وصف الرسالة هو من الغيب، وتفصيل ذلك هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، كما ذكر الله تعالى ذلك في قوله: ( وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ )، وقال: ( وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا )" انتهى من "مجموع الفتاوى" (13/ 232-233).
والإيمان بالغيب هو المحك الذي يتميز به الصادق من الشاك.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:
" فقال: ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ )، حقيقة الإيمان: هو التصديق التام بما أخبرت به الرسل، المتضمن لانقياد الجوارح، وليس الشأن في الإيمان بالأشياء المشاهدة بالحس، فإنه لا يتميز بها المسلم من الكافر، إنما الشأن في الإيمان بالغيب، الذي لم نره ولم نشاهده، وإنما نؤمن به، لخبر الله وخبر رسوله؛ فهذا الإيمان الذي يميز به المسلم من الكافر، لأنه تصديق مجرد لله ورسله. فالمؤمن يؤمن بكل ما أخبر الله به، أو أخبر به رسوله، سواء شاهده، أو لم يشاهده، وسواء فهمه وعقله، أو لم يهتد إليه عقله وفهمه.
بخلاف الزنادقة والمكذبين للأمور الغيبية، لأن عقولهم القاصرة المقصرة لم تهتد إليها، فكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ففسدت عقولهم، ومرجت أحلامهم. وزكت عقول المؤمنين المصدقين المهتدين بهدى الله.
ويدخل في الإيمان بالغيب، الإيمان بجميع ما أخبر الله به من الغيوب الماضية والمستقبلة، وأحوال الآخرة، وحقائق أوصاف الله وكيفيتها، وما أخبرت به الرسل من ذلك؛ فيؤمنون بصفات الله ووجودها، ويتيقنونها، وإن لم يفهموا كيفيتها " انتهى من "تفسير السعدي" (ص40–41).
فالمؤمن بما تخبر به الرسل من الأمور التي لم يشاهدها، هو الصادق الذي ثبت إيمانه.
قال الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ الحجرات/15.
وأما أهل الكفر: فكثير منهم متيقن بعدم صدور الكذب عن رسلهم، لكنه ينكر الغيب، ويتخذ لذلك معاذير، فإذا عاينوا ملائكة الموت وعاينوا الآخرة، فإيمانهم لا ينفعهم في هذه الحال لأنه إيمان اضطرار وليس بتصديق، فلذا لو أعيدوا إلى الدنيا لعادوا إلى التكذيب.
قال الله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ، وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ الأنعام/27–29.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" معنى الإضراب في قوله: ( بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ )، فهم ما طلبوا العود إلى الدنيا رغبة ومحبة في الإيمان، بل خوفا من العذاب الذي عاينوه، جزاء ما كانوا عليه من الكفر، فسألوا الرجعة إلى الدنيا ليتخلصوا مما شاهدوا من النار؛ ولهذا قال: ( وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ )، أي: في تمنيهم الرجعة رغبة ومحبة في الإيمان.
ثم قال مخبرا عنهم: إنهم لو ردوا إلى الدار الدنيا، لعادوا لما نهوا عنه من الكفر والمخالفة ( وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) أي: في قولهم: ( يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ )، ( وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ) أي: لعادوا لما نهوا عنه، إنهم لكاذبون، ولقالوا: ( إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا ) أي: ما هي إلا هذه الحياة الدنيا، ثم لا معاد بعدها؛ ولهذا قال: ( وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ) " انتهى من "تفسير ابن كثير" (3/249).
وليس هذا يعني أن مشاهدة الغيب ليس فيها نفع، بل هي نافعة لأصحاب القلوب السليمة الراغبة في الإيمان المحبة له، حيث تزداد بتلك المشاهدة إيمانا ويقينا.
كما في قصة إبراهيم عليه السلام، حيث قال الله تعالى:
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ البقرة/260.
ويشير إلى هذا أيضا حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ لِلَّهِ مَلاَئِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ، قَالَ: فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، قَالَ: فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ عز وجل، وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ: مَا يَقُولُ عِبَادِي؟ قَالُوا: يَقُولُونَ: يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ. قَالَ: فَيَقُولُ: هَلْ رَأَوْنِي؟ قَالَ: فَيَقُولُونَ: لاَ وَاللَّهِ مَا رَأَوْكَ؟ قَالَ: فَيَقُولُ: وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً، وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا وَتَحْمِيدًا، وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا. قَالَ: يَقُولُ: فَمَا يَسْأَلُونِي؟ قَالَ: يَسْأَلُونَكَ الجَنَّةَ. قَالَ: يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا. قَالَ: يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا، وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا، وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً، قَالَ: فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟ قَالَ: يَقُولُونَ: مِنَ النَّارِ. قَالَ: يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: فيَقُولُونَ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا. قَالَ: يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا، وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً. قَالَ: فَيَقُولُ: فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ. قَالَ: يَقُولُ مَلَكٌ مِنَ المَلاَئِكَةِ: فِيهِمْ فُلاَنٌ لَيْسَ مِنْهُمْ، إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ. قَالَ: هُمُ الجُلَسَاءُ لاَ يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ رواه البخاري (6408)، ومسلم (2689).
فهذا يدل على أنهم لو رأوا الله تعالى، وكذا الجنة والنار، لنفعهم ذلك بزيادة إيمانهم وتصديقهم.
وإيمان المسلمين اليوم بالنبي صلى الله عليه وسلم هو ضرب من الإيمان بالغيب، ومن شاهده من الصحابة رضوان الله عليهم نفعه إيمانه.
روى سعيد بن منصور بإسناد رواته ثقات، كما في "التفسير من سنن سعيد بن منصور" (2/ 544)، قَالَ: أخبرنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - بن مسعود - قَالَ: ذَكَرُوا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِيمَانَهُمْ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّ أَمْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بَيِّنًا لِمَنْ رَآهُ، وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، مَا آمَنَ مُؤْمِنٌ أَفْضَلَ مِنْ إِيمَانٍ بِغَيْبٍ، ثُمَّ قَرَأَ: (الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ).
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى:
" وفي المراد بالغيب ها هنا ستة أقوال:... والسادس: أنه الايمان بالرسول في حق من لم يره. قال عمرو بن مرة: قال أصحاب عبد الله له: طوبى لك، جاهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجالسته. فقال: إن شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مبينا لمن رآه، ولكن أعجب من ذلك: قوم يجدون كتابا مكتوبا يؤمنون به ولم يروه، ثم قرأ: ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) " انتهى من "زاد المسير" (1/ 24-25).
ثانيا:
عدم معرفة العبد مكانته عند الله لا علاقة له بالإيمان بالغيب
ومما سبق يتبيّن بوضوح أن عدم اطلاع العبد على مكانته عند الله تعالى، لا تدخل في مسألة الإيمان بالغيب الذي أمرنا به وسنحاسب عليه.
وإنما هي داخلة في النهي عن الرجم بالغيب، وعدم القول بلا علم؛ فالإنسان لا يعلم مدى قبول الله تعالى لأعماله وما هي خاتمته، فلذا ليس له أن يزكي نفسه، ومع هذا لا ييأس من رحمة الله تعالى وكرمه، فيكون دوما بين الرجاء والخوف.
قال الله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ، وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ الأعراف/55 – 56.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:
"(وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا) أي: خوفا من عقابه، وطمعا في ثوابه، طمعا في قبولها، وخوفا من ردها، لا دعاء عبد مُدِلٍّ على ربه، قد أعجبته نفسه، ونزل نفسه فوق منزلته، أو دعاء من هو غافل لاهٍ." انتهى من "تفسير السعدي" (ص 292).
ومن هذا الباب خوف الصحابة من الوقوع في النفاق، فلا يزكون أنفسهم، ولا يقطعون بقبول أعمالهم، بل يخشون أن يكون قد صدر منهم من المخالفات التي تؤدي إلى النفاق وهم لا يشعرون، فلا ينسبون أنفسهم إلى العصمة.
فبوّب البخاري رحمه الله تعالى في "الصحيح" بابا: " بَابُ خَوْفِ المُؤْمِنِ مِنْ أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ وَهُوَ لاَ يَشْعُرُ "
وساق فيه:
" وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: (مَا عَرَضْتُ قَوْلِي عَلَى عَمَلِي إِلَّا خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ مُكَذِّبًا )، وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: ( أَدْرَكْتُ ثَلاَثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ: إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ )، وَيُذْكَرُ عَنِ الحَسَنِ: ( مَا خَافَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلاَ أَمِنَهُ إِلَّا مُنَافِقٌ )" انتهى من "فتح الباري" (1/ 109-110).
قال ابن رجب رحمه الله تعالى:
" وأصل هذا يرجع إلى ما سبق ذكره: أن النفاق أصغر وأكبر؛ فالنفاق الأصغر: هو نفاق العمل وهو الذي خافه هؤلاء على أنفسهم؛ وهو باب النفاق الأكبر، فيخشى على من غلب عليه خصال النفاق الأصغر: في حياته أن يخرجه ذلك إلى النفاق الأكبر، حتى ينسلخ من الإيمان بالكلية، كما قال تعالى: ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) وقال: ( وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) " انتهى من "فتح الباري" (1/195).
ومن هذا الباب جاز الاستثناء في الإيمان، بأن يقول المسلم أنا مؤمن إن شاء الله تعالى؛ أي أن الإيمان يدخل فيه الأعمال، من فعل الواجبات وترك المحرمات، فيخاف أن يكون قد صدر منه تقصير، فلا ينسب لنفسه الإيمان الكامل، لعدم علمه بذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" وأما مذهب سلف أصحاب الحديث، كابن مسعود وأصحابه والثوري وابن عيينة وأكثر علماء الكوفة، ويحيى بن سعيد القطان فيما يرويه عن علماء أهل البصرة، وأحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة: فكانوا يستثنون في الإيمان...
بل صرح أئمة هؤلاء بأن الاستثناء إنما هو لأن الإيمان يتضمن فعل الواجبات، فلا يشهدون لأنفسهم بذلك، كما لا يشهدون لها بالبر والتقوى؛ فإن ذلك مما لا يعلمونه، وهو تزكية لأنفسهم بلا علم " انتهى من "مجموع الفتاوى" (7/ 438–439).
وقال رحمه الله تعالى:
" الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر الله به عبده كله؛ وترك المحرمات كلها؛ فإذا قال الرجل: أنا مؤمن بهذا الاعتبار، فقد شهد لنفسه بأنه من الأبرار المتقين القائمين بفعل جميع ما أمروا به؛ وترك كل ما نهوا عنه، فيكون من أولياء الله؛ وهذا من تزكية الإنسان لنفسه، وشهادته لنفسه بما لا يعلم. ولو كانت هذه الشهادة صحيحة، لكان ينبغي له أن يشهد لنفسه بالجنة إن مات على هذه الحال، ولا أحد يشهد لنفسه بالجنة؛ فشهادته لنفسه بالإيمان، كشهادته لنفسه بالجنة إذا مات على هذه الحال؛ وهذا مأخذ عامة السلف الذين كانوا يستثنون، وإن جوزوا ترك الاستثناء بمعنى آخر، كما سنذكره إن شاء الله تعالى " انتهى من "مجموع الفتاوى" (7/446).
لكن لا يعني هذا أن المسلم لا يجزم بأصل إسلامه، بل يجزم ولا يشك فيما في قلبه، من إيمانه بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم والآخر والقدر خيره وشره.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" أحمد وغيره من السلف كانوا يجزمون، ولا يشكون في وجود ما في القلب من الإيمان في هذه الحال، ويجعلون الاستثناء عائدا إلى الإيمان المطلق المتضمن فعل المأمور " انتهى من "مجموع الفتاوى" (7/450).
وقال ابن أبي العز رحمه الله تعالى:
" وأما من يجوز الاستثناء وتركه، فهم أسعد بالدليل من الفريقين، وخير الأمور أوسطها: فإن أراد المستثني الشك في أصل إيمانه: مُنع من الاستثناء، وهذا مما لا خلاف فيه.
وإن أراد أنه مؤمن من المؤمنين الذين وصفهم الله في قوله: ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ، أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ )، وفي قوله تعالى: ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ). فالاستثناء حينئذ جائز " انتهى من "شرح الطحاوية" (ص 353).
ثالثا:
الخوف من النفاق
المحمود من الخوف من النفاق، هو الخوف الذي يدفع نحو الاجتهاد في العمل الصالح، فإذا خاف العبد من الرياء أثناء عبادته، فليكن خوفه هو الخوف الذي يدفع العابد إلى مجاهدة هذا الرياء مع الاستمرار في العبادة والاستكثار منها، وليس الخوف الذي يقعد المسلم عن العبادة ويعرض عنها بدعوى الخوف من الرياء.
وقد سبق بيان هذا في جواب السؤال رقم: (21880).
والله أعلم.
تعليق