الحمد لله.
أولًا:
أضاف الله سبحانه تزيين الأعمال لنفسه سبحانه، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ)النمل/4.
وأضاف التزيين إلى الشيطان، فقال: (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ)النمل/ 24.
فاعلم أن التزيين منسوب إلى الله تقديرًا، ومنسوب إلى الشيطان لعنه الله مباشرة، ودعاء لأصحابه إليها. وبنيهما فرق.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "وأما التزيين، فقال تعالى: (كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) الأنعام/ 108، وقال: ((7)أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) فاطر/8، وقال: (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)الأنعام/43.
فأضاف التزيين إليه سبحانه خلقًا ومشيئة، وحذف فاعله تارة، ونسبه إلى سببه ومن أجراه على يده تارة.
وهذا التزيين منه سبحانه حسن؛ إذ هو ابتلاء واختبار لعبيده؛ ليتميز المطيع منهم من العاصي، والمؤمن من الكافر، كما قال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)الكهف/7، وهو من الشيطان قبيح.
وأيضًا: فتزيينه سبحانه للعبد عمله السيئ: عقوبة منه له على إعراضه عن توحيده وعبوديته، وإيثاره سيئ العمل على حَسَنِه؛ فإنه لابدّ أن يُعرّفه سبحانه السيئ من الحسن، فإذا آثر القبيح، واختاره وأحبَّه ورضيه لنفسه؛ زيّنه سبحانه له، وأعماه عن رؤية قبحه بعد أن رآه قبيحًا.
وكل ظالم وفاجر وفاسق لابد أن يريه الله تعالى ظلمه وفجوره وفسقه قبيحًا، فإذا تمادى عليه ارتفعت رؤية قبحه من قلبه، فربما رآه حسنًا عقوبة له؛ فإنه إنما يكشف له عن قبحه بالنور الذي في قلبه، وهو حجة الله عليه، فإذا تمادى في غيّه وظلمه ذهب ذلك النور، فلم ير قبحه في ظلمات الجهل والفسوق والظلم.
ومع هذا؛ فحجة الله قائمة عليه بالرسالة، وبالتعريف الأول.
فتزيين الربّ تعالى عدل، وعقوبته حكمة.
وتزيين الشيطان إغواء وظلم، وهو السبب الخارج عن العبد.
والسبب الداخل فيه: حبّه وبغضه وإعراضه.
والرب سبحانه خالق الجميع، والجميع واقع بمشيئته وقدرته، ولو شاء لهدى خلقه أجمعين، والمعصوم من عصمه الله، والمخذول من خذله الله، (لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54))الأعراف/54" انتهى من "شفاء العليل" (1/ 340-342).
وقال رحمه الله أيضا: "فالبلاء مُرَكَّب من تزيين الشيطان، وجهل النفس، فإنه يزين لها السيئات ويريها إياها في صورة المنافع واللذات والطيبات، ويُغفِلها عن مطالعتها لمضرتها، فيتولّد من بين هذا التزيين، وهذا الإغفال والإنساء لها: إرادة وشهوة.
ثم يمدها بأنواع التزيين، فلا يزال يقوى، حتى يصير عزمًا جازمًا يقترن به الفعل، كما زيّن للأبوين الأكل من الشجرة، وأغفلهما عن مطالعة مضرة المعصية.
فالتزيين هو سبب إتيان الخير والشر، كما قال تعالى: (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) الأنعام/43، وقال: ((7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَأَىهُ حَسَنًا)فاطر/8.
وقال في تزيين الخير: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ)الحجرات/7.
وقال في تزيين النوعين: (كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)الأنعام/108.
فتزيين الخير والهدى: بواسطة الملائكة والمؤمنين.
وتزيين الشر والضلال: بواسطة الشياطين من الجن والإنس، كما قال تعالى: (وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ)الأنعام/137.
وحقيقة الأمر: أن التزيين إنما يغترّ به الجاهل؛ لأنه يُلْبِسُ له الباطلَ والضارَّ المؤذي، صورةَ الحق والنافعَ الملائم" انتهى من "شفاء العليل" (2/ 58-59).
وقال الشيخ ابن عثيمين، رحمه الله:
"وَقَوْله تعالى: (زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) مَن المُزَيِّنُ؟
ذكر الله عَزَّ وَجَلَّ أنَّ المُزَيِّنَ الشَّيْطانُ، وذكر أنَّ المُزَيِّنَ هو الله (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ)النمل:/4، وقال تعالى: (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ)النمل/24، وفي بعض الآيات يكون المُزَيِّنُ مُبْهَمًا كما في هذه الآيَة، وكما في قَوْله تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)آل عمران/ 14.
فالمُزَيِّنُ الله، والمُزَيِّن الشَّيْطان، فإذا قلْتَ: كيف تَجْمَعُ بين هذا وهذا؟
فالجواب: أنَّ المُزَيِّنَ المُباشِرَ هو الشَّيْطان، أمَّا الله عَزَّ وَجَلَّ فهو مُزَيِّنٌ بالتَّقْديرِ؛ يعني: هو الذي قدَّر على الشَّيْطان أن يُزَيِّنَ لهم، ومعلومٌ أنَّ الله تعالى خالِقُ الشَّيْطانِ، وما نتج من أعماله فهو مضافٌ إلى الله؛ كما نقول في الإِنْسَانِ: إنَّه مَخْلوقٌ لله، وما نتج من أعماله فهو مَخْلوقٌ لله عَزَّ وَجَلَّ، فيكون تَزْيينُ الله تعالى حَسَب التَّقْديرِ؛ يعني: هو الذي قدَّر أن يُزَيِّنَ الشَّيْطانُ لهم أَعْمالَهُم"، انتهى من "تفسير العثيمين - سورة فاطر" (ص63).
والله أعلم.
تعليق