الحمد لله.
أولا:
صفة العَجب ثابتة لله تعالى بالكتاب والسنة، كما قال تعالى: (بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ) الصافات/12، على القراءة بضم التاء "عجبتُ"، وهي قراءة صحيحة ثابتة.
وينظر: جواب السؤال رقم: (127605).
ثانيا:
أنكر شريح القاضي رحمه الله قراءة (بل عجبتُ) بضم التاء، وقال: إن الله لا يعجب، وأنكر غيره بعض حروف القرآن.
وعذرهم في ذلك أنه لم يبلغهم تواتر هذه الحروف.
قال القرطبي رحمه الله في تفسيره (15/69): " قوله تعالى: (بل عجبت ويسخرون) قراءة أهل المدينة، وأبي عمرو، وعاصم بفتح التاء خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم، أي بل عجبت مما نزل عليك من القرآن وهم يسخرون به. وهي قراءة شريح وأنكر قراءة الضم، وقال: إن الله لا يعجب من شيء، وإنما يعجب من لا يعلم. وقيل: المعنى بل عجبت من إنكارهم للبعث. وقرأ الكوفيون إلا عاصما بضم التاء. واختارها أبو عبيد والفراء، وهي مروية عن علي وابن مسعود، رواه شعبة عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود أنه قرأ:" بل عجبت" بضم التاء. ويروى عن ابن عباس. قال الفراء في قوله سبحانه:" بل عجبت ويسخرون" قرأها الناس بنصب التاء ورفعها، والرفع أحب إلي، لأنها عن علي وعبد الله وابن عباس..." انتهى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وكان القاضي شريح ينكر قراءة من قرأ: بل عجبتُ ويقول: إن الله لا يعجب؛ فبلغ ذلك إبراهيم النخعي فقال: إنما شريح شاعر يعجبه علمه، كان عبد الله أفقه منه فكان يقول: بل عجبتُ فهذا قد أنكر قراءة ثابتة، وأنكر صفة دل عليها الكتاب والسنة، واتفقت الأمة على أنه إمام من الأئمة.
وكذلك بعض السلف أنكر بعضهم حروف القرآن، مثل إنكار بعضهم قوله: أفلم ييأس الذين آمنوا وقال: إنما هي: "أو لم يتبين الذين آمنوا"، وإنكار الآخر قراءة قوله: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وقال: إنما هي: "ووصى ربك". وبعضهم كان حذف المعوذتين، وآخر يكتب سورة القنوت. وهذا خطأ معلوم بالإجماع والنقل المتواتر، ومع هذا فلما لم يكن قد تواتر النقل عندهم بذلك لم يكفروا، وإن كان يكفر بذلك من قامت عليه الحجة بالنقل المتواتر" انتهى من "مجموع الفتاوى" (12/492).
والأصل في ذلك أن القائل قد يقول قولا هو كفر في نفسه، لكنه لم تبلغه الحجة، أو لم تثبت عنده، أو قدم عليها ما يظنه معارضا لها، فإذا كان مجتهدا في طلب الحق وأخطأ فإنه يغفر له خطؤه كائنا ما كان.
قال شيخ الإسلام - رحمه الله - : " وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها ، قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق ، وقد تكون عنده ولم تثبت عنده ، أو لم يتمكن من فهمها ، وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها ، فمن كان من المؤمنين مجتهداً في طلب الحق وأخطأ : فإن الله يغفر له خطأه كائنا ما كان ، سواء كان في المسائل النظرية أو العملية ، هذا الذي عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وجماهير أئمة الإسلام" انتهى من "مجموع الفتاوى" (23/346).
وقال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - : " قال العلماء : كل متأول معذور بتأويله : ليس بآثم ، إذا كان تأويله سائغا في لسان العرب ، وكان له وجه في العلم " انتهى من" فتح الباري " (12/304).
وأما من أنكر الآن شيئا من القرآن بعد قيام الحجة عليه فهو كافر.
قال القاضي عياض رحمه الله: " وكذلك من أنكر القرآن أو حرفا منه، أو غيّر شيئا منه، أو زاد فيه كفعل الباطنية والإسماعيلية... وكذلك من أنكر شيئا مما نص فيه القرآن بعد علمه أنه من القرآن الذي في أيدي الناس ومصاحف المسلمين، ولم يكن جاهلا به، ولا قريب عهد بالإسلام، واحتج لإنكاره إما بأنه لم يصح النقل عنده ولا بلغه العلم به، أو لتجويز الوهم على ناقله، فنكفره بالطريقين المتقدمين؛ لأنه مكذب للقرآن مكذب للنبي صلى الله عليه وسلم لكنه تستر بدعواه" انتهى من "الشفا" (2/289).
والله أعلم.
تعليق