الحمد لله.
أولا :
مما يجب الإيمان به من أمور الآخرة : الميزان الذي يوزن به أعمال العباد ، كما قال سبحانه : ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ) الأنبياء/47
قال الطحاوي رحمه الله في عقيدته المشهورة : " وَنُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ وَجَزَاءِ الْأَعْمَالِ يَوْمَ الْقِيَامَة ، وَالْعَرْضِ وَالْحِسَابِ ، وَقِرَاءَة الْكِتَابِ ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ ، وَالصِّرَاطِ وَالْمِيزَانِ " انتهى .
والميزان يكون بعد الحساب ، وقبل الصراط :
قال القرطبي رحمه الله : " قال العلماء : و إذا انقضى الحساب كان بعده وزن الأعمال ؛ لأن الوزن للجزاء فينبغي أن يكون بعد المحاسبة ، فإن المحاسبة لتقرير الأعمال والوزن لإظهار مقاديرها ليكون الجزاء بحسبها ، قال الله تعالى ( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا } الآية . و قال ( فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه ) إلى آخر السورة " انتهى من "التذكرة" ص (359).
ومع أنه ـ في الواقع ـ ليس ثمة نص يبين تلك الأعمال مرتبة ، وليس في ذلك إلا اجتهادات لبعض أهل العلم ؛ فإن الترتيب الذي ذكره القرطبي عن العلماء مناسب من حيث الزمن ، لأن الله يحاسب الشخص على أعماله ويقرره بها ، ثم بعد ذلك ينصب له الميزان ليكون نتيجة لتلك المحاسبة ؛ ليُطْلِع الله العبد على مصداق تلك المحاسبة ظاهراً في ميزانه.
( انظر : الحياة الآخرة للعواجي 3/1169)
ثانيا :
إذا وزنت الأعمال ، كان الناس على ثلاثة أقسام :
الأول : من رجحت حسناته على سيئاته ، وهذا سعيد مفلح ، كما قال تعالى : ( فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ) المؤمنون/102، 103 ، وقال : ( فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ ) القارعة/6-11
الثاني : من رجحت سيئاته على حسناته ، وهذا إن كان مسلما ، دخل النار ، فإذا هُذّب ونقي أخرج منها ودخل الجنة ، وإن كان كافرا بقي فيها خالدا مخلدا ، كما في آية سورة المؤمنون السابقة .
الثالث : من استوت حسناته وسيئاته ، وهذا من أصحاب الأعراف ، يكونون في مكان بين الجنة والنار ، يطلعون على هؤلاء وهؤلاء ، كما قال سبحانه : ( وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) الأعراف/46 ، 47 ، ومصير أهل الأعراف دخول الجنة بعد ذلك .
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره (2/289) : " لما ذكر تعالى مخاطبة أهل الجنة مع أهل النار نبّه أن بين الجنة والنار حجاباً وهو الحاجز المانع من وصول أهل النار إلى الجنة ... قال ابن جرير : والأعراف جمع عرف ، وكل مرتفع من الأرض عند العرب يسمى عرفاً ، وإنما قيل لعرف الديك عرفاً لارتفاعه .
وفي رواية عن ابن عباس : الأعراف : تل بين الجنة والنار ، حبس عليه ناس من أهل الذنوب بين الجنة والنار ، وفي رواية عنه هو سور بين الجنة والنار . وكذا قال الضحاك وغير واحد من علماء التفسير . وقال السدي : إنما سمي الأعراف أعرافاً لأن أصحابه يعرفون الناس .
واختلفت عبارات المفسرين في أصحاب الأعراف من هم ؟ وكلها قريبة ترجع إلى معنى واحد وهو أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم ، نص عليه حذيفة وابن عباس وابن مسعود وغير واحد من السلف والخلف رحمهم الله ... وقال ابن جرير : حدثني يعقوب حدثنا هشيم أخبرنا حصين عن الشعبي عن حذيفة أنه سئل عن أصحاب الأعراف فقال : هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فقعدت بهم سيئاتهم عن الجنة وخلّفت بهم حسناتهم عن النار ، قال فوقفوا هناك على السور حتى يقضي الله فيهم ... " انتهى .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : "وَقَدْ يَفْعَلُ مَعَ سَيِّئَاتِهِ حَسَنَاتٍ تُوَازِيهَا وَتُقَابِلُهَا فَيَنْجُو بِذَلِكَ مِنْ النَّارِ وَلَا يَسْتَحِقُّ الْجَنَّةَ بَلْ يَكُونُ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ . وَإِنْ كَانَ مَآلُهُمْ إلَى الْجَنَّةِ فَلَيْسُوا مِمَّنْ أُزْلِفَتْ لَهُمْ الْجَنَّةُ أَيْ قُرِّبَتْ لَهُمْ إذْ كَانُوا لَمْ يَأْتُوا بِخَشْيَةِ اللَّهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ " .
انتهى من مجموع الفتاوى (16/177) .
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : " سمعت من شخص يقول: إن الأعراف سور بين الجنة والنار يمكثون فيه عدداً من السنين؟
فأجاب : الناس إذا كان يوم القيامة انقسموا إلى ثلاثة أقسام :
قسم ترجح حسناتهم على سيئاتهم ، فهؤلاء لا يعذبون ويدخلون الجنة ، وقسم آخر ترجح سيئاتهم على حسناتهم ، فهؤلاء مستحقون للعذاب بقدر سيئاتهم ثم ينجون إلى الجنة ، وقسم ثالث سيئاتهم وحسناتهم سواء ، فهؤلاء هم أهل الأعراف ليسوا من أهل الجنة ، ولا من أهل النار ، بل هم في مكان برزخ عالٍ مرتفع يرون النار ويرون الجنة ، يبقون فيه ما شاء الله وفي النهاية يدخلون الجنة ، وهذا من تمام عدل الله سبحانه وتعالى أن أعطى كل إنسان ما يستحق ، فمن ترجّحت حسناته فهو من أهل الجنة ، ومن ترجحت سيئاته عذّب في النار إلى ما شاء الله ، ومن كانت حسناته وسيئاته متساوية فهو من أهل الأعراف ، لكنها -أي الأعراف- ليست مستقراً دائماً ، وإنما المستقر: إما إلى الجنة ، وإما إلى النار ، جعلني الله وإياكم من أهل الجنة " انتهى من "لقاء الباب المفتوح" (14/16).
والله أعلم .
تعليق