الحمد لله.
أولاً :
التوبة : هي الرجوع إلى الله تعالى ، والندم على ما سلف من الذنوب ، والإقلاع عن المعاصي ، والعزم الصحيح الصادق على ألا يعاود الذنب في المستقبل .
قال ابن القيم رحمه الله : " حَقِيقَةُ التَّوْبَةِ : هِيَ النَّدَمُ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُ فِي الْمَاضِي ، وَالْإِقْلَاعُ عَنْهُ فِي الْحَالِ ، وَالْعَزْمُ عَلَى أَنْ لَا يُعَاوِدَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ " انتهى من "مدارج السالكين" (1/ 199).
وقال علماء اللجنة الدائمة للإفتاء : " التوبة هي: التخلي والرجوع عن الذنوب والمعاصي من فعل محرم أو ترك واجب " انتهى من "فتاوى اللجنة الدائمة" (24/ 303) .
وانظر جواب السؤال رقم : (14289) .
وإذا كانت هذه هي التوبة فلا يمكن أن يُتصور إنسان تاب ولم يعمل صالحا ، لأنه إن كانت معصيته بترك واجب ، كترك صلاة أو زكاة أو صيام فتوبته بفعل ذلك الواجب والمحافظة عليه ، وذلك عمل صالح ، وإن كانت معصيته بفعل محرم كالزنا والربا وشرب الخمر والكذب والسرقة والغش ، فتوبته بترك ذلك ، وترك المعصية خوفا من الله تعالى عمل صالح .
ولذلك تعرف التوبة بأنها : " الرجوع من معصية الله إلى طاعته " .
انتهى من "مجموع فتاوى ورسائل العثيمين" (20/ 401) .
فلابد للتائب من أن يعمل صالحا بعد توبته .
إلا أن بعض الناس قد يقتصر في عمله الصالحات بما يختص بالذنب التائب منه فقط ، وبعض الناس يزيد من العمل الصالح كالصدقة والصيام والصلاة ... إلخ . ليكون ذلك تكميلا لتوبته .
وقد قرن الله تعالى التوبة بالعمل الصالح في مواضع كثيرة من القرآن الكريم ، فقال عز وجل :
( إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا ) مريم/ 60 .
وقال عز وجل : ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ) طه/ 82 .
وقال سبحانه : ( إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) الفرقان/ 70 .
وقال سبحانه : ( فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ ) القصص/ 67 .
وقال تعالى : ( فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) المائدة/ 39 .
قال ابن عطية رحمه الله :
" المعنى عند جمهور أهل العلم : أن من تابَ من السرقة فندم على ما مضى وأقلع في المستأنف وأصلح برد الظلامة إن أمكنه ذلك وإلا فبإنفاقها في سبيل الله ، وَأَصْلَحَ أيضا في سائر أعماله وارتفع إلى فوق : (فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) ويذهب عنه حكم السرقة فيما بينه وبين الله تعالى " انتهى من "تفسير ابن عطية" (2/ 189) .
وقال القرطبي رحمه الله :
" وَلَا يَكْفِي فِي التَّوْبَةِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا قَوْلُ الْقَائِلِ : قَدْ تُبْتُ ، حَتَّى يَظْهَرَ مِنْهُ فِي الثَّانِي خِلَافُ الْأَوَّلِ ، فَإِنْ كَانَ مُرْتَدًّا رَجَعَ إِلَى الْإِسْلَامِ مُظْهِرًا شَرَائِعَهُ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمَعَاصِي ظَهَرَ مِنْهُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ ، وَجَانَبَ أَهْلَ الْفَسَادِ وَالْأَحْوَالَ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْأَوْثَانِ جَانَبَهُمْ وَخَالَطَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ ، وَهَكَذَا يَظْهَرُ عَكْسَ مَا كَانَ عَلَيْهِ " انتهى من " تفسير القرطبي" (2/ 187) .
وقال ابن القيم رحمه الله :
" وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِنَّمَا يُفَسِّرُ التَّوْبَةَ بِالْعَزْمِ عَلَى أَنْ لَا يُعَاوِدَ الذَّنْبَ ، وَبِالْإِقْلَاعِ عَنْهُ فِي الْحَالِ، وَبِالنَّدَمِ عَلَيْهِ فِي الْمَاضِي ، وَإِنْ كَانَ فِي حَقِّ آدَمِيٍّ فَلَا بُدَّ مِنْ أَمْرٍ رَابِعٍ ، وَهُوَ التَّحَلُّلُ مِنْهُ.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرُوهُ بَعْضُ مُسَمَّى التَّوْبَةِ بَلْ شَرْطُهَا، وَإِلَّا فَالتَّوْبَةُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ - كَمَا تَتَضَمَّنُ ذَلِكَ - تَتَضَمَّنُ الْعَزْمَ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ وَالْتِزَامِهِ فَلَا يَكُونُ بِمُجَرَّدِ الْإِقْلَاعِ وَالْعَزْمِ وَالنَّدَمِ تَائِبًا، حَتَّى يُوجَدَ مِنْهُ الْعَزْمُ الْجَازِمُ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ، وَالْإِتْيَانِ بِهِ، هَذَا حَقِيقَةُ التَّوْبَةِ ، وَهِيَ اسْمٌ لِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ ، لَكِنَّهَا إِذَا قُرِنَتْ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ كَانَتْ عِبَارَةً عَمَّا ذَكَرُوهُ ، فَإِذَا أُفْرِدَتْ تَضَمَّنَتِ الْأَمْرَيْنِ .
فَإِنَّ حَقِيقَةَ التَّوْبَةِ الرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ بِالْتِزَامِ فَعْلِ مَا يُحِبُّ ، وَتَرْكِ مَا يَكْرَهُ ، فَهِيَ رُجُوعٌ مِنْ مَكْرُوهٍ إِلَى مَحْبُوبٍ ، فَالرُّجُوعُ إِلَى الْمَحْبُوبِ جُزْءُ مُسَمَّاهَا ، وَالرُّجُوعُ عَنِ الْمَكْرُوهِ الْجُزْءُ الْآخَرُ، وَلِهَذَا عَلَّقَ سُبْحَانَهُ الْفَلَاحَ الْمُطْلَقَ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ بِهَا، فَقَالَ : (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) النور/31 ، فَكُلُّ تَائِبٍ مُفْلِحٌ ، وَلَا يَكُونُ مُفْلِحًا إِلَّا مَنْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ وَتَرَكَ مَا نُهِيَ عَنْهُ ... فَالتَّائِبُونَ هُمُ (الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ) فَحِفْظُ حُدُودِ اللَّهِ جُزْءُ التَّوْبَةِ، وَالتَّوْبَةُ هِيَ مَجْمُوعُ هَذِهِ الْأُمُورِ ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ تَائِبًا لِرُجُوعِهِ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ مِنْ نَهْيِهِ ، وَإِلَى طَاعَتِهِ مِنْ مَعْصِيَتِهِ ، كَمَا تَقَدَّمَ ...
فالتَّوْبَةُ هِيَ الرُّجُوعُ مِمَّا يَكْرَهُهُ اللَّهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا إِلَى مَا يُحِبُّهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَيَدْخُلُ فِي مُسَمَّاهَا الْإِسْلَامُ ، وَالْإِيمَانُ ، وَالْإِحْسَانُ ، وَتَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْمَقَامَاتِ [أي أنها درجات كثيرة على حسب ما يأتي به التائب من الأعمال الصالحة] ، وَلِهَذَا كَانَتْ غَايَةَ كُلِّ مُؤْمِنٍ ، وَبِدَايَةَ الْأَمْرِ وَخَاتِمَتَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ ، وَهِيَ الْغَايَةُ الَّتِي وُجِدَ لِأَجْلِهَا الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ، وَالتَّوْحِيدُ جُزْءٌ مِنْهَا، بَلْ هُوَ جُزْؤُهَا الْأَعْظَمُ الَّذِي عَلَيْهِ بِنَاؤُهَا.
وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَعْرِفُونَ قَدْرَ التَّوْبَةِ وَلَا حَقِيقَتَهَا ، فَضْلًا عَنِ الْقِيَامِ بِهَا عِلْمًا وَعَمَلًا وَحَالًا، وَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ تَعَالَى مَحَبَّتَهُ لِلتَّوَّابِينَ إِلَّا وَهُمْ خَوَاصُّ الْخَلْقِ لَدَيْهِ ، وَلَوْلَا أَنَّ التَّوْبَةَ اسْمٌ جَامِعٌ لِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَحَقَائِقِ الْإِيمَانِ لَمْ يَكُنِ الرَّبُّ تَعَالَى يَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ ذَلِكَ الْفَرَحَ الْعَظِيمَ ، فَجَمِيعُ مَا يَتَكَلَّمُ فِيهِ النَّاسُ مِنَ الْمَقَامَاتِ وَالْأَحْوَالِ هُوَ تَفَاصِيلُ التَّوْبَةِ وَآثَارُهَا " .
انتهى من "مدارج السالكين" (1/ 312-314).
ثالثا :
أما وقت العمل الصالح الذي يكون مع التوبة ، فالعمل الصالح المتعلق بالمعصية التي تاب منها ، كالمحافظة على الواجبات ورد المظالم إلى أهلها ، فذلك العمل جزء من التوبة لا تصح إلا به ، فلابد أن يكون مقترنا بها ، أما ما زاد على ذلك من الأعمال الصالحة فليس له وقت محدد ، وكلما أكثر التائب من عمل الصالحات كان ذلك أحسن وأكمل .
والله تعالى أعلم .
تعليق