الحمد لله.
إذا كنت تؤمن معنا ببشرية الرسول عليه الصلاة والسلام ، فذلك يعني أنك تؤمن بأنه عليه الصلاة والسلام يأكل ويشرب وينام ويستيقظ ويتزوج النساء ويدخل الخلاء ، وأيضا من لوازم بشريته عليه الصلاة والسلام أنه قد ينسى ويخطئ ، وقد يتصرف على خلاف الأولى والأجدر ، بل قد قرر ذلك جمهور العلماء : أن الأنبياء غير معصومين من الصغائر ، ووردت بذلك الأدلة .
ينظر : (7208) ، (42216) .
ألم تقرأ قول الله عز وجل : ( عَبَسَ وَتَوَلَّى . أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى . وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى . أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى . أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى . فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى . وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى . وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى . وَهُوَ يَخْشَى . فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ) عبس/1-10، فهو عتاب صريح من الله عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام ، نتيجة تصرفه خلاف الأولى مع ذلك الأعمى ، وقد كان الأصل أن يقبل عليه ويكرمه بما يليق به .
وكذلك ألم تقرأ قول الله سبحانه : ( عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ) التوبة/43. يقول العلامة السعدي في تفسيره : " أي : سامحك وغفر لك ما أجريت " انتهى من " تيسير الكريم الرحمن " (ص/338) ، ففيه عتاب واضح على إذن النبي صلى الله عليه وسلم لمن استأذنه من المنافقين بالتخلف عن القتال ، وهو واحد من أمثلة بشريته صلى الله عليه وسلم التي من مقتضاها السهو والخطأ والغضب ، وإن كان ذلك منه صلى الله عليه وسلم في الأحيان النادرة ، بعكس من يغلب ذلك عليه ، أو يكون ديدنا له ، وينقاد لمتقضى الطبع في أمره كله ، أو في غالبه .
وتصور ما سبق يعينك على جواب
سؤالك واستشكالك ، خاصة حين تسائل نفسك : لماذا لم يخطر لك الإشكال نفسه على هذه
الآيات ، بأن تقول : لو جاءك أعمى يطلب منك دعوته إلى الحق ، وتعليمه الخير ،
فأعرضت عنه : فلا تثريب عليك ؛ لأن ذلك حصل من النبي صلى الله عليه وسلم !!
بل نقول إن التثريب عليك واقع ، واللوم عليك حاصل أيضا ، ولا يحل لك التعلل بقصة
الأعمى ، ابن أم مكتوم ، وما كان من شأنه .
وحالك تماما كحال الذي يريد أن يقع فيما نهاه الله عنه ، ويقول : إن آدم عليه
السلام نهي عن الأكل من الشجرة ، فخالف وأكل ؟!!
أو كحال من يقتل النفس المحرمة ، ويتعلل بأن موسى عليه السلام وكز رجلا بعصاه فقضى
عليه !!
إلى أمثال هذه التعليلات الباطلة المردودة ، حتى يعود ما قص الله علينا في كتابه
وبالا على فاعل ذلك ؛ نتيجة الفهم الخاطئ لقضية بشرية الرسل والأنبياء .
ولعله ألا يكون من الأدب في
حقنا تقصي مثل هذه المخالفات للرسل والأنبياء الكرام ، أو العمد إلى جمعها ،
والإكثار فيها ؛ حتى قال ابن العربي رحمه الله : " لا يجوز لأحد منا اليوم أن يخبر
بذلك ( أي بعصيان آدم ) إلا إذا ذكرناه في أثناء قوله تعالى عنه ، أو قول نبيه ،
فأما أن يبتدئ ذلك من قبل نفسه ، فليس بجائز لنا في آبائنا الأدنين المماثلين لنا،
فكيف في أبينا الأقدم الأعظم الأكرم النبي المقدم الذي عذره الله وتاب عليه وغفر له
" .
انتهى من " أحكام القرآن " لابن العربي (3/259) .
فإن الله جل جلاله لم يقص ذلك في كتابه عن أنبيائه ، ليعيرهم بها ، أو ليكون ذلك
موضع الأسوة والقدوة فيهم ، حتى يقول القائل : لي أن أغضب كما غضب نبي الله ، ولي
.. ولي ؛ فإن محل القدوة هو في مقام الأنبياء بعد ذلك ، وعبوديتهم لربهم إثر ما
ألموا به من ذلك .
قال أبو المعالي الجويني رحمه الله :
" مَذْهَبُنَا الَّذِي نَدِينُ بِهِ ، لَا تَجِبُ عِصْمَةُ الْأَنْبِيَاءِ عَنْ
صَغَائِرِ الذُّنُوبِ ، وَآيُ الْقُرْآنِ فِي أَقَاصِيصِ النَّبِيِّينَ مَشْحُونَةٌ
بِالتَّنْصِيصِ عَلَى هَنَاتٍ كَانَتْ مِنْهُمْ ، اسْتَوْعَبُوا أَعْمَارَهُمْ فِي
الِاسْتِغْفَارِ مِنْهَا " انتهى من "غياث الأمم " (94) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية
رحمه الله :
" وَإِنَّمَا ابْتَلَى اللَّهُ الْأَنْبِيَاءَ بِالذُّنُوبِ : رَفْعًا
لِدَرَجَاتِهِمْ بِالتَّوْبَةِ ، وَتَبْلِيغًا لَهُمْ إلَى مَحَبَّتِهِ وَفَرَحِهِ
بِهِمْ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ
وَيَفْرَحُ بِتَوْبَةِ التَّائِبِ أَشَدَّ فَرَحٍ فَالْمَقْصُودُ كَمَالُ
الْغَايَةِ لَا نَقْصُ الْبِدَايَةِ ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ يَكُونُ لَهُ الدَّرَجَةُ
لَا يَنَالُهَا إلَّا بِمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ أَوْ الْبَلَاءِ
" انتهى من " مجموع الفتاوى " (20/89) .
وحينئذ ؛ فليس غضب النبي هو
محل القدوة ولا الأسوة ، بل ما يحدثه لربه من العبوديات بعد ما ألم به ، هو محل
الأسوة والقدوة .
ثم إن من حِكَم ذلك : أن تتعلم منه الأمة أن الكمال المطلق لله سبحانه وتعالى .
" قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ : إِن الله تَعَالَى لم يذكر ذنُوب الْأَنْبِيَاء فِي
الْقُرْآن ليعيرهم بهَا؛ وَلَكِن ذكرهَا ليبين موقع النِّعْمَة عَلَيْهِم
بِالْعَفو، وَلِئَلَّا ييأس أحد من رَحمته .
وَقيل: إِنَّه ابْتَلَاهُم بِالذنُوبِ ليتفرد بِالطَّهَارَةِ والعزة ، ويلقاه
جَمِيع الْخلق يَوْم الْقِيَامَة على انكسار الْمعْصِيَة " انتهى من " تفسير
السمعاني " (3/22) .
ثم لتلعم أن غضب النبي صلى الله عليه وسلم رحمة بمن غضب عليه منهم ، وأجر له ، وصدقة ، كما في الحديث المذكور آنفا في سؤالك ؛ وصدق الله العظيم : ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) التوبة/128.
وحينئذ تعلم أنه لا تعارض
بين هذا الغضب وبين الأحاديث النبوية الشريفة التي تحذر منه ، أو مع المواقف
الغالبة للنبي صلى الله عليه وسلم التي استعمل فيها الحلم والعفو والصفح ، حتى مع
أشد الأعداء قساوة وضراوة في محاربة الإسلام والمسلمين .
فهل يبقى بعد ذلك أي إشكال في حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : " دَخَلَ
عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَانِ فَكَلَّمَاهُ
بِشَيْءٍ ، لَا أَدْرِي مَا هُوَ فَأَغْضَبَاهُ ، فَلَعَنَهُمَا ، وَسَبَّهُمَا ،
فَلَمَّا خَرَجَا ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ أَصَابَ مِنَ الْخَيْرِ
شَيْئًا ، مَا أَصَابَهُ هَذَانِ ، قَالَ : ( وَمَا ذَاكِ ) . قَالَتْ : قُلْتُ :
لَعَنْتَهُمَا وَسَبَبْتَهُمَا ، قَالَ : ( أَوَ مَا عَلِمْتِ مَا شَارَطْتُ
عَلَيْهِ رَبِّي ؟ قُلْتُ : اللهُمَّ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ ، فَأَيُّ
الْمُسْلِمِينَ لَعَنْتُهُ ، أَوْ سَبَبْتُهُ فَاجْعَلْهُ لَهُ زَكَاةً وَأَجْرًا )
رواه مسلم (2600) .
وينظر لمزيد الفائدة حول هذه
المسألة : جواب السؤال رقم : (147389) ،
(139912) .
والله أعلم .
تعليق