الحمد لله.
رزقنا الله وإياكم فقه دينه ، وثبتنا وإياكم على مراضيه . آمين .
هذا الحديث المذكور في السؤال: حديث صحيح .
أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (21304) ، وأبو داود في "سننه" (333) ، والترمذي في "سننه" (124) ، من حديث أبي ذر الغفاري ، رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ طَهُورُ الْمُسْلِمِ ، وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ ، فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ ، فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ .
والحديث صحيح ، صححه النووي في "المجموع" (1/94) ، وقوى إسناده ابن حجر في "فتح الباري" (1/235) ، وصححه الشيخ الألباني في "صحيح أبي داود" (358) .
والحديث يتعلق بالتيمم كما هو واضح من سياق الحديث .
ومعلوم أن الله تعالى افترض على المسلم الطهارة للصلاة ونحوها ، وأوجب على المسلم أن يستعمل الماء الطهور في الوضوء والغسل من الجنابة والحيض .
ونظرا لأنه ربما يبحث المسلم أو المسلمة عن الماء للوضوء أو الغسل من الجنابة أو الحيض فلا يجده ، أو ربما وجد الماء ، لكن لا يستطيع استعماله لأجل المرض مثلا ، أو ربما وجد الماء لكنه يحتاجه لشربه أو شرب دوابه ، ففي مثل هذه الأحوال: أباح الله تعالى للمسلم أن "يتيمم" لطهارته، فيستعمل التراب ونحوه بدلا عن الماء ، وذلك بأن يضرب بيديه على التراب الطاهر ، أو على أي شيء طاهر من وجه الأرض ، ثم يمسح كفيه ووجهه ، وذلك بنية الطهارة، وهذا الفعل هو التيمم .
وقد بين الله تعالى ذلك في كتابه .
قال الله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) المائدة/6.
وقد أجمع علماء المسلمين على مشروعية التيمم عند فقد الماء ، أو عند العجز عن استعماله .
قال ابن عبد البر في "التمهيد" (19/270) :" وَأَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْأَمْصَارِ بِالْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَالْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ، فِيمَا عَلِمْتُ: أَنَّ التَّيَمُّمَ بِالصَّعِيدِ ، عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ : طَهُورُ كُلِّ مَرِيضٍ ، أَوْ مُسَافِرٍ ، وَسَوَاءٌ كَانَ جُنُبًا ، أَوْ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ ؛ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ "انتهى .
أما شرح الحديث الذي أورده السائل ، فهو كما يلي :
قول النبي صلى الله عليه وسلم :" إن الصعيد الطيب طهور المسلم ".
في هذه الجملة ثلاث كلمات :
الأولى : " الصعيد " ، هو ما صعد وارتفع على وجه الأرض .
وقد جاءت هذه اللفظة في آية التيمم السابقة في قوله تعالى : فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا .
وقد اختلف أهل العلم في المقصود بالصعيد ، هل هو التراب خاصة، أم هو وجه الأرض، وإن كان رملا ونحوه، مما ليس بتراب؟
فمنهم من قال بأنه التراب فقط ، ومنهم من قال هو كل ما صعد على وجه الأرض من تراب وحجر ورمل وصخر .
قال العراقي في "طرح التثريب" (2/99) :" وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالصَّعِيدِ: فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: الصَّعِيدُ وَجْهُ الْأَرْضِ، وَقَالُوا الصَّعِيدُ كُلُّ مَا صَعِدَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنْ تُرَابٍ وَحَجَرٍ وَرَمْلٍ وَحْصًا وَنَوْرَةٍ وَزِرْنِيخٍ وَجِصٍّ وَرُخَامٍ ...
وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ ، وَمِنْهُمْ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَدَاوُد الظَّاهِرِيُّ : إلَى أَنَّ الصَّعِيدَ هُوَ التُّرَابُ فَقَطْ ، دُونَ سَائِرِ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ " انتهى.
وقد سبق بيان القول الراجح في هذه المسألة، وأنه يجوز التيمم بغير التراب من أجزاء الأرض ، إذا لم يجد ترابا؛ وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وغيره.
ينظر جواب السؤال رقم : (264397) ، ورقم : (36774) .
الثانية : " الطيب " ، وهو وصف للصعيد ، والمقصود به الطاهر من النجاسات .
قال ابن حجر في "فتح الباري" (1/447) :" الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ أَيْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّيِّبِ الطَّاهِرُ ". انتهى.
وفي هذا بيان لشرط التراب ونحوه ، مما يقع التيمم به: أن يكون طاهرا في نفسه؛ وإلا ، فإن ما هو نجس في نفسه، أو متنجس بغيره من النجاسات: لا يصح التيمم به .
الثالثة : " طهور " : أي مُطهر للمسلم عند استعماله، بالطريقة التي جاء بها الشرع ، فيصبح المسلم بعد التيمم طاهرا، وتحل له له الصلاة ونحوها بهذه الطهارة؛ إلا أن طهارته هذه مقيدة بأجل، كما سيأتي بيانه .
قول النبي صلى الله عليه وسلم :" وإن لم يجد الماء عشر سنين ".
أي لو أن المسلم فقد الماء ، أو عجز عن استعماله لمدة طويلة : جاز له أن يتيمم ، حتى لو بلغت المدة عشر سنين أو أكثر .
قال الخطابي في "معالم السنن" (1/103) :" ومعنى قوله ولو إلى عشر سنين ، أي أن له أن يفعل التيمم ، مرة بعد أخرى ، وإن بلغت مدة عدم الماء واتصلت إلى عشر سنين " انتهى.
قول النبي صلى الله عليه وسلم :" فإذا وجد الماء فليمسه بشرته ".
أي : أن المسلم الذي فقد الماء ، أو عجز عن استعماله ، يجوز له التيمم ما دام فاقدا للماء ، أو عاجزا عن استعماله ، فإذا وجد الماء ، أو زال العذر ، وجب عليه حينئذ أن يستعمل الماء في الوضوء ، وأن يغتسل إن كان جنبا ، أو كانت امرأة حائضا ، لأن التيمم كان رخصة من الله ، وتيسيرا منه عند فقد الماء، لاستباحة الصلاة ونحوها ، فإذا حضر الماء وجب إزالة الحدث ، وذلك بالاغتسال.
وفي هذا بيان أن الطهارة التي تحصل بالتيمم : طهارة مقيدة بمدة فقد الماء، أو العجز عن استعماله، فإذا وجد الماء، أو قدر عليه، زال حكم هذه الطهارة بالتيمم ، ووجب عليه أن يتحول إلى الطهارة بالماء ، فيغتسل ، أو يتوضأ .
وينظر للفائدة : جواب السؤال رقم : (204760) .
وفي الحديث الذي أخرجه البخاري في "صحيحه" (344) ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مع أصحابه في سفر ، فصلى بهم ، قال عمران : " فَلَمَّا انْفَتَلَ مِنْ صَلاَتِهِ إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مُعْتَزِلٍ لَمْ يُصَلِّ مَعَ القَوْمِ، قَالَ: مَا مَنَعَكَ يَا فُلاَنُ أَنْ تُصَلِّيَ مَعَ القَوْمِ؟ قَالَ: أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ وَلاَ مَاءَ ، قَالَ: عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ ، فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ .. ثم أصاب الناس العطش ، فلما وجد النبي صلى الله عليه وسلم الماء ، أَعْطَى الَّذِي أَصَابَتْهُ الجَنَابَةُ إِنَاءً مِنْ مَاءٍ، قَالَ: اذْهَبْ فَأَفْرِغْهُ عَلَيْكَ ) .
وينظر في صفة التيمم جواب السؤال رقم : (21074) .
فالحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ، على ما يسّر للعباد من دينه ، ورفع عنهم من الحرج ، إنه جواد كريم .
تعليق