الحمد لله.
أولًا :
الإمام محمَّد بن أحمد بن محمَّد بن عبد الله بن يحيى بن عبد الرحمن بن يوسف ابن سعيد بن جُزَي الكلبي، يكنى: أبا القاسم، من أهل غرناطة، وذوي الأصالة والنباهة فيها.
ولد أبو القاسم في التاسع عشر (١٩) من ربيع الأول، عام ثلاثة وتسعين وستمائة (٦٩٣ﻫ) الموافق ﻟ: (١٢٩٤م)، ونشأ في بيت حسب نبيل وعلم مشهور في الأندلس الإسلامية.
كان ـ رحمه الله تعالى ـ نابغًا في فنونٍ شَتَّى وعلومٍ مُتعدِّدة، فكان فقيهًا مالكيًّا، مُحدِّثًا، أُصوليًّا، مُقرئًا، مُتكلمًا، أديبًا، نحويًّا لُغويًّا، حافظًا مُتقنًا، مُفسِّرًا.
وكان عظيمة الهمة، في العكوف على العلم، والاقتصاد في الاقتيات، والاشتغال والتقييد، والتدوين، تقدم خطيبًا على حداثة سنه في الجامع الكبير ببلده، فأمتع القلوب بحسن أسلوبه، وملك الأفئدة بوعظه وإرشاده وبراعة منطقه، اشتغل بالتدريس فتتلمذ عليه كثير من الناس.
كان الإمام أبو القاسم على جانبٍ كبيرٍ من المروءة والورع، والعِفَّة والطهارة، قال تلميذه الحضرمي في "فهرسته": "كان رجلًا ذا مروءة كاملة، حافظًا متقنًا، ذا أخلاقٍ فاضلةٍ، وديانةٍ، وعِفَّة، وطهارة، وشهرته دينًا وعلمًا أغنت عن التعريف به".
وكان قصد الإمام أبي القاسم الذي يتطلَّع إلى الظفر به، ويأمل الحصول عليه هو الشهادة الخالصة في سبيل الله تعالى، تكون له تكفيرًا للذنوب ونجاة من النار.
وفي هذا المعنى فإن لأبي القاسم من الشعر ما يترجم هذه الغاية حيث يقول:
قَصْدِي المُؤَمَّلُ فِي جَهْرِي وَإِسْرَارِي * وَمَطْلَبِي مِنْ إِلَهِي الوَاحِدِ البَارِي
شَهَادَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ خَالِصَةً * تَمْحُو ذُنُوبِي وَتُنْجِينِي مِنَ النَّارِ
إنَّ المَعَاصِيَ رِجْسٌ لَا يُطَهِّرُهَا * إِلَّا الصَّوَارِمُ مِنْ أَيْمَانِ كُفَّارِ
وقد حقَّق الله قصده، فاستُشْهِد الإمام يوم الكائنة بطريف، وهو يحرِّض الناس، ويشحذ بصائرهم، ويثبِّتهم، وذلك ضحوة الإثنين السابع لجمادى الأولى عام واحد وأربعين وسبع مائة (٧٤١ﻫ) تغمَّده الله برحمته، وأسكنه فسيح جنانه.
انظر: مقدمة تحقيق : "تقريب الوصول"، لأبي عبد المعز فركوس (١٣).
ثانيًا:
كتاب (التسهيل لعلوم التنزيل) تفسير مهم ونفيس، وفيه نَفَسُ الأندلسيين في التحرير، ويُبدي رأيه وترجيحه لبعض الأقوال، وإن كان لا ينصُّ على مستنده في الترجيح - غالبًا -.
وقد قدم له المؤلف بمقدمة نفيسة جدًّا، وطرح فيها موضوعات في غاية الأهمية، منها: أنواع الاختلاف الواقعة في التفسير، وأسباب الاختلاف في التفسير، ووجوه الترجيح في التفسير.
وقد استفاد كثيرًا من تفسيري: الزمخشري، وابن عطية (ت: 542)
وقد عرَّف الإمام ابن جزي (ت: 741) بتفسيره، ومنهجه، فقال: «إن علم القرآن العظيم هو أرفع العلوم قدرًا، وأجلها خطرًا، وأعظمها أجرًا، وأشرفها ذكرًا، وأن الله أنعم عليَّ بأن شغلني بخدمة القرآن وتعلُّمه وتعليمه، وشغفني بتفهم معانيه وتحصيل علومه.
فاطلعت على ما صنفه العلماء رضي الله عنهم في تفسير القرآن من التصانيف المختلفة الأوصاف، المتباينة الأصناف، فمنهم من آثر الاختصار، ومنهم من طوَّل حتى أكثر الأسفار، ومنهم من تكلَّم في بعض فنون العلم دون بعض، ومنهم من اعتمد على نقل أقوال الناس، ومنهم من عوَّل على النظر والتحقيق والتدقيق، وكل أحد سلك طريقًا نحاه، وذهب مذهبًا ارتضاه، وكلًا وعد الله الحسنى.
فرغبتُ في سلوك طريقهم، والانخراط في سلك فريقهم، وصنفتُ هذا الكتاب في تفسير القرآن العظيم وسائر ما يتعلق به من العلوم، وسلكت مسلكًا نافعًا؛ إذ جعلته وجيزًا جامعًا، قصدت به أربع مقاصد تتضمن أربع فوائد:
الفائدة الأولى: جمع كثير من العلم في كتاب صغير الحجم؛ تسهيلًا على الطالبين، وتقريبًا على الراغبين، فلقد احتوى هذا الكتاب على ما تضمَّنته الدواوين الطويلة من العلم ولكن بعد تلخيصها وتمحيصها، وتنقيح فصولها، وحذف حشوها وفضولها، ولقد أودعته من كل فن من فنون علم القرآن اللباب المرغوب فيه دون القشر المرغوب عنه من غير إفراط ولا تفريط، ثم إني عزمت على إيجاز العبارة، وإفراط الاختصار، وترك التطويل والتكرار.
الفائدة الثانية: ذكر نُكت عجيبة وفوائد غريبة قلَّما توجد في كتاب؛ لأنها من بنات صدري ونتائج فكري، ومما أخذته عن شيوخي رضي الله عنهم، أو مما التقطته من مستظرفات النوادر، الواقعة في غرائب الدفاتر.
الفائدة الثالثة: إيضاح المشكلات، إما بحل العُقَد المقفلات، وإما بحسن العبارة ورفع الاحتمالات وبيان المجملات.
الفائدة الرابعة: تحقيق أقوال المفسرين والتفرقة بين السقيم منها والصحيح، وتمييز الراجح من المرجوح؛ وذلك أن أقوال الناس على مراتب، فمنها الصحيح الذي يعوَّل عليه، ومنها الباطل الذي لا يلتفت إليه، ومنها ما يحتمل الصحة والفساد، ثم إن هذا الاحتمال قد يكون متساويًا أو متفاوتًا، والتفاوت قد يكون قليلًا أو كثيرًا.
... وسميت هذا الكتاب كتاب التسهيل لعلوم التنزيل، وقدمت في أوله مقدمتين: إحداهما: في أبواب نافعة، وقواعد كلية جامعة، والأخرى: فيما كثر دوره من اللغات الواقعة.
وأنا أرغب إلى الله العظيم الكريم أن يجعل تصنيف هذا الكتاب عملًا مبرورًا، وسعيًا مشكورًا، ووسيلة توصلني إلى جنات النعيم، وتنقذني من عذاب الجحيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم».
انظر: "شرح مقدمة التسهيل"، د. مساعد الطيار(7)، وانظر شرحه على كلام الإمام.
فأنت ترى أن المؤلف قصد إلى جملة من الأمور، وقد وفى بها، فجاء كتابه من أفضل كتب التفسير وأنفعها.
وللتفسير طبعات، من أجودها: طبعة دار طيبة الخضراء، بتحقيق الأستاذ علي الصالحي.
وقد قام بدراسة منهجه الدكتور علي محمد الزبيري في مجلدين، وهي دراسة نافعة، متميزة في بابها.
ثالثًا:
كان الإمام "ابن جزي" أشعريًّا على طريقة الأشعرية في العقيدة ، وقد قال رحمه الله في "القوانين الفقهية (ص: 13)": "ورد في القرآن والحديث ألفاظ يوهم ظاهرها التشبيه كقوله تعالى (على العرش استوى) و(يداه مبسوطتان) وكحديث: نزول الله كل ليلة إلى سماء الدنيا، وغير ذلك، وهي كثيرة تفرق الناس فيها ثلاث فرق :
(الفرقة الأولى) : السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين: آمنوا بها، ولم يبحثوا عن معانيها ولا تأولوها، بل أنكروا على من تكلم فيها (والراسخون في العلم يقولون أمنا به كل من عند ربنا) ، وهذه طريقة التسليم التي تعود إلى السلامة، وبها أخذ مالك والشافعي وأكثر المحدثين .
(الفرقة الثانية) قوم حملوها على ظاهرها، فلزمهم التجسيم. ويعزى ذلك إلى الحنبلية وبعض المحدثين .
(الفرقة الثالثة) قوم تأولوها وأخرجوها على ظاهرها إلى ما يقتضيه أدلة العقول ، وهم أكثر المتكلمين ، والله أعلم"، انتهى .
وكلامه عن الفرقة الأولى ليس صوابًا : فإنهم عرفوا معانيها ، وإنما لم يبحثوا عن كيفياتها ، وهذا كلام المفوضة من الأشاعرة .
ولعلك تنظر في معنى التفويض الجواب رقم: (138920).
وقد أوَّل الإمام ابن جزي كثيرًا من الصفات ، كصفة الاستواء ، واليد ، وغيرها ، وقد بين هذه التأويلات الشيخ عبدالرحمن البراك في تعليقه على الكتاب ، والذي نشر مفردًا ، ونشر أيضًا في طبعة الأستاذ علي الصالحي ، ويمكن الرجوع إلى هذه المحاضرة للشيخ خالد السبت ، فقد تعرض لذلك .
والله أعلم
تعليق