الثلاثاء 2 جمادى الآخرة 1446 - 3 ديسمبر 2024
العربية

أنواع الشفاعة

السؤال

أسمع من يقول بأن الشفاعة ملك لله وحده لا تطلب إلا منه، وآخرين يقولون إن الله أعطى الشفاعة لنبيه صلى الله عليه وسلم ولأوليائه الصالحين فيصح أن نطلبها منهم، فما هو الصواب من ذلك مع ذكر ما تستند إليه من الأدلة الشرعية؟

ملخص الجواب

الشفاعة هي التوسط للغير في جلب المنفعة أو دفع المضرة، وهي قسمان: القسم الأول: الشفاعة التي تكون في الآخرة ـ يوم القيامة ـ.القسم الثاني: الشفاعة التي تكون في أمور الدنيا. ولكل منهما شروط وأنواع، انظر تفصيل ذلك في الجواب المطول.

الحمد لله.

تعريف الشفاعة

فالشفاعة هي التوسط للغير في جلب المنفعة أو دفع المضرة.

أقسام الشفاعة 

وهي قسمان:

القسم الأول: الشفاعة التي تكون في الآخرة ـ يوم القيامةـ .

القسم الثاني: الشفاعة التي تكون في أمور الدنيا.

أنواع الشفاعة في الآخرة

فأما الشفاعة التي تكون في الآخرة فهي نوعان:

الشفاعة الخاصة

وهي التي تكون للرسول صلى الله عليه وسلم خاصة لا يشاركه فيها غيره من الخلق وهي أقسام:

أولها: الشفاعة العظمى

 وهي من المقام المحمود الذي وعده الله إياه، في قوله تعالى: وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا سورة الإسراء/79.

وحقيقة هذه الشفاعة هي أن يشفع لجميع الخلق حين يؤخر الله الحساب فيطول بهم الانتظار في أرض المحشر يوم القيامة فيبلغ بهم من الغم والكرب ما لا يطيقون، فيقولون: من يشفع لنا إلى ربنا حتى يفصل بين العباد، يتمنون التحول من هذا المكان، فيأتي الناس إلى الأنبياء فيقول كل واحد منهم: لست لها، حتى إذا أتوا إلى نبينا صلى الله عليه وسلم فيقول: أنا لها، أنا لها. فيشفع لهم في فصل القضاء، فهذه الشفاعة العظمى، وهي من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم.  

والأحاديث الدالة على هذه الشفاعة كثيرة في الصحيحين وغيرهما و منها ما رواه البخاري في صحيحه (1748) عن ابن عمر رضي الله عنهما: “إن الناس يصيرون يوم القيامة جُثاً، كل أمة تتبع نبيها، يقولون: يا فلان اشفع، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود”.

ثانيها: الشفاعة لأهل الجنة لدخول الجنة

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك رواه مسلم (333).

وفي رواية له (332): أنا أول شفيع في الجنة.

ثالثها: شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب

فعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عنده عمه أبو طالب فقال: لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه رواه البخاري (1408)، ومسلم (360).

رابعها: شفاعته صلى الله عليه وسلم في دخول أناس من أمته الجنة بغير حساب

وهذا النوع ذكره بعض العلماء واستدل له بحديث أبي هريرة الطويل في الشفاعة وفيه: ثُمَّ يُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ سَلْ تُعْطَهْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَقُولُ: أُمَّتِي يَا رَبِّ أُمَّتِي يَا رَبِّ أُمَّتِي يَا رَبِّ، فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ: أَدْخِلْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لا حِسَابَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْبَابِ الْأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْأَبْوَابِ رواه البخاري (4343)، ومسلم (287).

الشفاعة العامة

وهي تكون للرسول صلى الله عليه وسلم ويشاركه فيها من شاء الله من الملائكة والنبيين والصالحين وهي أقسام:

أولاها: الشفاعة لأناس قد دخلوا النار في أن يخرجوا منها. والأدلة على هذا القسم كثيرة جدا منها:

ما جاء في صحيح مسلم (269) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعا: فوالذي نفسي بيده ما منكم من أحد بأشد مناشدة لله في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار، يقولون: ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون. فيقال لهم: أخرجوا من عرفتم، فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقا كثيرا… فيقول الله عز وجل: شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط .

ثانيها: الشفاعة لأناس قد استحقوا النار في أن لا يدخلوها، وهذه قد يستدل لـها بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ما من مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا إلا شفعهم الله فيه أخرجه مسلم (1577) فإن هذه شفاعة قبل أن يدخل النار، فيشفعهم الله في ذلك.

ثالثها: الشفاعة لأناس من أهل الإيمان قد استحقوا الجنة أن يزدادوا رفعة ودرجات في الجنة، ومثال ذلك ما رواه مسلم رحمه الله (1528): عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دعــا لأبي سلمة فقال: اللّهمّ اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديّين، واخلفه في عقبه في الغابرين واغفر لنا وله يا ربّ العالمين، وافسح له في قبره، ونوّر له فيه.

شروط الشفاعة في الآخرة

دلت الأدلة على أن الشفاعة في الآخرة لا تقع إلا بشروط هي:

1- رضا الله عن المشفوع له، لقول تعالى: ولا يشفعون إلا لمن ارتضى الأنبياء/ 28. وهذا يستلزم أن يكون المشفوع له من أهل التوحيد لأن الله لا يرضى عن المشركين. وفي صحيح البخاري (97) عن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لا يَسْأَلُنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْحَدِيثِ، أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ أَوْ نَفْسِه.

2-  إذن الله للشافع أن يشفع لقوله تعالى: من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه البقرة/255.

3-  رضا الله عن الشافع، لقوله تعالى: إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى النجم/26.

كما بَيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن اللعانين لا يكونون شفعاء يوم القيامة؛ كما روى مسلم في صحيحه (4703) عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ اللَّعَّانِينَ لا يَكُونُونَ شُهَدَاءَ وَلا شُفَعَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَة.

الشفاعة المتعلقة بالدنيا

وهي على نوعين:

الأول: ما يكون في مقدور العبد واستطاعته القيام به ؛ فهذه جائزة بشرطين:

1- أن تكون في شيء مباح، فلا تصح الشفاعة في شيء يترتب عليه ضياع حقوق الخلق أو ظلمهم، كما لا تصح الشفاعة في تحصيل أمر محرم. كمن يشفع لأناس قد وجب عليهم الحد أن لا يقام عليهم، قال تعالى: وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان المائدة/2.

وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها: أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلا أُسَامَةُ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ فَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا رواه البخاري (3261)، ومسلم (3196).

وفي صحيح البخاري (5568)، ومسلم (4761): عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَتَاهُ طَالِبُ حَاجَةٍ أَقْبَلَ عَلَى جُلَسَائِهِ فَقَالَ: اشْفَعُوا فَلْتُؤْجَرُوا وَلْيَقْضِ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا أَحَب.

2-  أن لا يعتمد بقلبه في تحقيق المطلوب ودفع المكروه إلا على الله وحده، وأن يعلم أن هذا الشافع لا يعدو كونه سببا أَذِنَ الله به، وأن النفع والضر بيد الله وحده، وهذا المعنى واضح جدا في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

فإذا تخلف أحد هذين الشرطين صارت الشفاعة ممنوعة منهيا عنها.

الثاني: ما لا يكون في مقدور العبد، وطاقته ووسعه كطلب الشفاعة من الأموات وأصحاب القبور، أو من الحي الغائب معتقدا أن بمقدوره أن يسمع وأن يحقق له طلبه فهذه هي الشفاعة الشركية التي تواردت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية بنفيها وإبطالها لما فـي ذلك مـن وصفهم بصفات الخالق عز وجل، لأن من صفاته عز وجل أنه هو الحي الذي لا يموت.

وشبهة هؤلاء أنهم يقولون: إن الأولياء وإن السادة يشفعون لأقاربهم، ولمن دعاهم، ولمن والاهم، ولمن أحبهم، ولأجل ذلك يطلبون منهم الشفاعة، وهذا بعينه هو ما حكاه الله عن المشركين الأولين حين قالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله يونس/18، يعنون معبوداتهم من الملائكة، ومن الصالحين، وغيرهم، وأنها تشفع لهم عند الله. وكذلك المشركون المعاصرون الآن ؛ يقولون: إن الأولياء يشفعون لنا، وإننا لا نجرؤ أن نطلب من الله بل نطلب منهم وهم يطلبون من الله، ويقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء والصالحين أعطاهم الله الشفاعة، ونحن ندعوهم ونقول: اشفعوا لنا كما أعطاكم الله الشفاعة. ويضربون مثلاً بملوك الدنيا فيقولون: إن ملوك الدنيا لا يوصل إليهم إلا بالشفاعة إذا أردت حاجة فإنك تتوسل بأوليائهم ومقربيهم من وزير وبواب وخادم وولد ونحوهم يشفعون لك حتى يقضي ذلك الملك حاجتك، فهكذا نحن مع الله تعالى نتوسل ونستشفع بأوليائه و بالسادة المقربين عنده، فوقعوا بهذا في شرك السابقين، وقاسوا الخالق بالمخلوق.

والله تعالى ذكر عن الرجل المؤمن في سورة يس قوله: أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئاً يس/23، وذكر الله تعالى أن الكفار اعترفوا على أنفسهم بقولهم: قالوا لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين * وكنا نخوض مع الخائضين * وكنا نكذب بيوم الدين * حتى أتانا اليقين * فما تنفعهم شفاعة الشافعين المدثر/43-48.

والنبي صلى الله عليه وسلم وإن أعطي الشفاعة يوم القيامة، إلا أنه لن يتمكن منها إلا بعد إذن الله تعالى، ورضاه عن المشفوع له.

ولهذا لم يدع صلى عليه وسلم أمته لطلب الشفاعة منه في الدنيا، ولا نقل ذلك عنه أحد من أصحابه رضي الله عنهم، ولو كان خيرا، لبلَّغه لأمته، ودعاهم إليه، ولسارع إلى تطبيقه أصحابه الحريصون على الخير، فعُلم أن طلب الشفاعة منه الآن منكر عظيم ؛ لما فيه من دعاء غير الله، والإتيان بسبب يمنع الشفاعة، فإن الشفاعة لا تكون إلا لمن أخلص التوحيد لله.

وأهل الموقف إنما يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يشفع لهم في فصل القضاء، لحضوره معهم، واستطاعته أن يتوجه إلى ربه بالسؤال، فهو من باب طلب الدعاء من الحي الحاضر فيما يقدر عليه.

ولهذا لم يرد أن أحدا من أهل الموقف سيطلب منه صلى الله عليه وسلم أن يشفع له في مغفرة ذنبه.

وهؤلاء الذين يطلبون منه الشفاعة الآن، بناء على جواز طلبها في الآخرة، لو ساغ لهم ما يدّعون، للزمهم الاقتصار على قولهم: يا رسول الله اشفع لنا في فصل القضاء!! ولكن واقع هؤلاء غير ذلك، فهم لا يقتصرون على طلب الشفاعة، وإنما يسألون النبي صلى الله عليه وسلم -وغيره – تفريج الكربات، وإنزال الرحمات، ويفزعون إليه في الملمات، ويطلبونه في البر والبحر، والشدة والرخاء، معرضين عن قول الله: أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أءله مع الله النمل/62.

ومن خلال ما سبق يتضح لكل منصف أن الشفاعة المثبتة هي الشفاعة المتعلقة بإذن الله ورضاه،لأن الشفاعة كلها ملكله. ويدخل في ذلك ما أذن الله به من طلب الشفاعة في أمور الدنيا من المخلوق الحي القادر على ذلك، وينتبه هنا إلى أن هذا النوع إنما جاز لأن الله أذن به، وذلك لأنه ليس فيه تعلقٌ قلبيٌ بالمخلوق وإنما غاية الأمر أنه سبب كسائر الأسباب التي أذن الشرع باستخدامها. وأن الشفاعة المنفية هي التي تطلب من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، لأن غير الله لا يملك الشفاعة و لا يستطيعها حتى يأذن الله له بها، ويرضى. فمن طلبها من غيره فقد تعدى على مقام الله، وظلم نفسه، وعرضها للحرمان من شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، نسأل الله العافية والسلامة، ونسأله أن يُشفِّع فينا نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم.. آمين.

المراجع:  

“الشفاعة عند أهل السنة والجماعة” للشيخ ناصر الجديع.

“القول المفيد” للشيخ محمد ابن عثيمين، (1/423). 

“أعلام السنة المنشورة”، (144). 

والله تعالى أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: الشيخ محمد صالح المنجد