الجمعة 26 جمادى الآخرة 1446 - 27 ديسمبر 2024
العربية

ما المراد بقوله تعالى (وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة)؟ وكيف يتحقق قيام الحجة عليهم؟

536487

تاريخ النشر : 12-11-2024

المشاهدات : 1229

السؤال

ما هو مذهب أهل السنة والجماعة في الوعد والوعيد، (وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا ۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)) وهنا يأتيهم العذاب بعد إقامة الحجة عليهم وعلم الله بأنهم لا يسلمون؟

الجواب

الحمد لله.

أولا:

قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا) الإسراء/58.

معناه أن القرى تذهب وتفنى، فالقرية الصالحة هلاكها بالموت، والقرية العاصية هلاكها بالعذاب.

قال ابن الجوزي رحمه الله: " قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها) «إِن» بمعنى «ما»، والقرية الصالحة هلاكها بالموت، والعاصية بالعذاب، والكتاب: اللوح المحفوظ، والمسطور: المكتوب" انتهى من "زاد المسير" (3/ 33).

وقال ابن عطية رحمه الله في تفسيره (3/ 466): " وقوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ) الآية: أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه ليس مدينةٌ من المدن إلا هي هالكة قبل يوم القيامة، بالموت والفناء، هذا مع السلامة وأخذها جُزءًا، جُزءًا. أو هي معذبة مأخوذة مرة واحدة. فهذا عموم في كل مدينة، ومِنْ لبيان الجنس.

وقيل: المراد الخصوص (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ) ظالمة…

والمعلوم: أن كل قرية تهلِك، إما من جهة القحوط والخسف غرقا، وإما من الفتن، أو منهما، وصور ذلك كثيرة لا يعلمها إلا الله عزّ وجل.

فأما ما هلك بالفتنة: فعن ظلم ولا بد، إما في كفر أو معاص، أو تقصير في دفاع، وحَزامة، وأما القحط فيصيب الله به من يشاء، وكذلك الخسف.

وقوله (مُهْلِكُوها) الضمير لها، وفي ضمن ذلك الأهل.

وقوله (مُعَذِّبُوها) هو على حذف مضاف، فإنه لا يعذب إلا الأهل.

وقوله (فِي الْكِتابِ) يريد في سابق القضاء، وما خطه القلم في اللوح المحفوظ، و «المسطور» المكتوب إسطارا" انتهى.

وقال الرازي في تفسيره (20/ 358): " اعلم أنه تعالى لما قال: (إن عذاب ربك كان محذورا) [الإسراء: 57]، بين أن كل قرية مع أهلها فلا بد وأن يرجع حالها إلى أحد أمرين: إما الإهلاك، وإما التعذيب. قال مقاتل: أما الصالحة فبالموت، وأما الطالحة فبالعذاب.

وقيل: المراد من قوله: (وإن من قرية) قرى الكفار، ولا بد أن تكون عاقبتها أحد أمرين: إما الاستئصال بالكلية وهو المراد من الإهلاك، أو بعذاب شديد دون ذلك، من قتل كبرائهم وتسليط المسلمين عليهم بالسبي واغتنام الأموال وأخذ الجزية.

ثم بين تعالى أن هذا الحكم حكم مجزوم به واقع فقال: (كان ذلك في الكتاب مسطورا) ومعناه ظاهر" انتهى.

وورى الطبري عن قتادة، قال: "(وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا): قضاء من الله كما تسمعون؛ ليس منه بدّ، إما أن يهلكها بموت، وإما أن يهلكها بعذاب مستأصل، إذا تركوا أمره، وكذّبوا رسله ".

قال الطبري: " وقوله (كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا) يعني في الكتاب الذي كتب فيه كلّ ما هو كائن، وذلك اللوح المحفوظ" انتهى من "تفسير الطبري" (17/ 475).

فحاصل معنى الآية: أن الله كتب الفناء على جميع القرى، فمنها ما يهلك بالموت تباعا، ومنها ما يستأصل العذاب استئصالا.

ثانيا:

أخبر الله تعالى أنه لا يهلك قرية بعذاب إلا إذا كانت ظالمة، كما قال سبحانه: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُون) هود/117

وقال سبحانه: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا) الكهف/59.

وأخبر أنه لا يهلكها إلا بعد قيام الحجة، كما قال: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ) القصص/58.

وقال سبحانه: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) يونس/13.

وقال سبحانه: (وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ) الشعراء/208.

وقال تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) الإسراء/15.

قال الأمين الشنقيطي رحمه الله: " ظاهر هذه الآية الكريمة: أن الله جل وعلا لا يعذب أحدا من خلقه، لا في الدنيا ولا في الآخرة، حتى يبعث إليه رسولا ينذره ويحذره، فيعصى ذلك الرسول، ويستمر على الكفر والمعصية بعد الإنذار والإعذار.

وقد أوضح جل وعلا هذا المعنى في آيات كثيرة، كقوله تعالى: (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل)، فصرح في هذه الآية الكريمة بأنْ لا بد أن يقطع حجة كل أحد بإرسال الرسل، مبشرين من أطاعهم بالجنة، ومنذرين من عصاهم النار.

وهذه الحجة التي أوضح هنا قطعها بإرسال الرسل مبشرين ومنذرين، بينها في آخر سورة طه بقوله: (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى).

وأشار لها في سورة القصص بقوله: (ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين) ، وقوله جل وعلا: (ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون) ، وقوله: (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير) الآية ، وكقوله: (وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة) الآية، إلى غير ذلك من الآيات" انتهى من "أضواء البيان" (3/ 65).

والحاصل: أن العذاب والإهلاك لا يكون إلا بعد قيام الحجة.

ولابن القيم رحمه الله بيان نافع في مسألة قيام الحجة، نسوقه بلفظه.

قال رحمه الله: " والله يقضي بين عباده يوم القيامة بحُكْمه وعدله، ولا يعذب إلا من قامت عليه حجته بالرسل، فهذا مقطوع به في جملة الخلق.

وأما كون زيد بعينه، وعمرو بعينه، قامت عليه الحجة، أم لا؟ فذلك مما لا يمكن الدخول بين الله وبين عباده فيه، بل الواجب على العبد أن يعتقد أن كل من دان بدين غير دين الإسلام: فهو كافر، وأن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسول.

هذا في الجملة. والتعيينُ موكولٌ إلى علم الله عز وجل، وحكمه.

هذا في أحكام الثواب، والعقاب.

وأما في أحكام الدنيا فهي جارية مع ظاهر الأمر؛ فأطفال الكفار ومجانينهم: كفار في أحكام الدنيا، لهم حكم أوليائهم.

وبهذا التفصيل يزول الإشكال في المسألة.

وهو مبنى على أربعة أُصول:

أحدها: أن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه، كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذَّبِينَ حَتَّى نبعث رَسُولاً} [الإسراء: 15]، وقال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] ، وقال تعالى: {كُلَّمَا أَلْقِى فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزْنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فكَذَّبْنَا وَقُلنَا مَا نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ} [الملك: 8- 9] ، وقال تعالى: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 11] ، وقال تعالى: {يَامَعْشَرَ الْجِنّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنْكُمْ يَقُصّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَىَ أَنْفُسِنَا وَغَرّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَىَ أَنْفُسِهِمْ أَنّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ} [الأنعام: 130] .

وهذا كثير في القرآن، يخبر أنه إنما يعذّب من جاءه الرسول، وقامت عليه الحجة، وهو المذنب الذى يعترف بذنبه، وقال تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف: 76]، والظالم من عرف ما جاءَ به الرسول، أو تمكن من معرفته. وأما من لم يكن عنده من الرسول خبر أصلاً، ولا تمكّن من معرفته بوجه، وعجز عن ذلك؛ فكيف يقال إنه ظالم؟

الأصل الثاني: أن العذاب يُستَحق بسببين:

أحدِهما: الإعراض عن الحجة، وعدم إرادة العلم بها، وبموجَبها.

الثاني: العناد لها بعد قيامها، وترك إرادة موجَبها.

فالأول كفر إعراض، والثاني كفر عناد.

وأما كفر الجهل، مع عدم قيام الحجة، وعدم التمكن من معرفتها: فهذا الذي نفى الله التعذيب عنه، حتى تقوم حجة الرسل.

الأصل الثالث: أن قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص: فقد تقوم حجة الله على الكفار في زمان دون زمان، وفى بقعة وناحية دون أُخرى، كما أنها تقوم على شخص دون آخر، إما لعدم عقله وتمييزه، كالصغير والمجنون، وإما لعدم فهمه، كالذي لا يفهم الخطاب ولم يَحضر ترجمان يترجم له. فهذا بمنزلة الأصم الذي لا يسمع شيئا،ً ولا يتمكن من الفهم، وهو أحد الأربعة الذين يُدْلون على الله بالحجة يوم القيامة، كما تقدم في حديث الأسود وأبي هريرة وغيرهما.

الأصل الرابع: أن أفعال الله سبحانه وتعالى تابعة لحكمته التي لا يُخل بها سبحانه، وأنها مقصودة لغايتها المحمودة، وعواقبها الحميدة". انتهى من "طريق الهجرتين"، ص413

ثالثا:

أهل السنة وسط في "بَابِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، بَيْنَ الْوَعِيدِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِتَخْلِيدِ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ فِي النَّارِ، وَبَيْنَ الْمُرْجِئَةِ الَّذِينَ يَجْحَدُونَ بَعْضَ الْوَعِيدِ، وَمَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ الْأَبْرَارَ عَلَى الْفُجَّارِ"، انتهى من "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" لابن تيمة (1/ 74).

وينظر: جواب السؤال رقم: (390508).

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب