الحمد لله.
كلام السلف في الذبيح هل هو إسماعيل أو إسحاق؟
مسألة تعيين الذبيح: اختلفت فيها الأقوال المنقولة عن السلف؛ فمنهم من نقل عنه بأنه إسحاق عليه السلام، ومنهم من نقل عنه بأنه إسماعيل عليه السلام.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" فممن حكي القول عنه بأن الذبيح إسحاق: كعب الأحبار. وروي عن عمر، والعباس، وعلي، وابن مسعود، ومسروق، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء، والشعبي، ومقاتل، وعبيد بن عمير، وأبي ميسرة، وزيد بن أسلم، وعبد الله بن شقيق، والزهري، والقاسم بن أبي بزة، ومكحول، وعثمان بن حاضر، والسدي، والحسن، وقتادة، وأبي الهذيل، وابن سابط.
وهو اختيار ابن جرير، وهذا عجب منه، وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس.
ولكن الصحيح عنه [أي: عن ابن عباس]، وعن أكثر هؤلاء: أنه إسماعيل عليه السلام قال مجاهد، وسعيد والشعبي، ويوسف بن مهران، وعطاء، وغير واحد، عن ابن عباس: هو إسماعيل عليه السلام...
قال ابن أبي حاتم: وروي عن علي، وابن عمر، وأبي هريرة، وأبي الطفيل، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، والحسن، ومجاهد،والشعبي، ومحمد بن كعب، وأبي جعفر محمد بن علي، وأبي صالح أنهم قالوا: الذبيح هو إسماعيل عليه السلام... " انتهى من"البداية والنهاية" (1 / 368 – 369).
والذين رجحوا أنه إسحاق عليه السلام، لم يصلنا أن معهم نصا صحيحاً من السنة ، فالأحاديث التي جاءت في هذا كلها ضعيفة .
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الذبيح هو إسحاق، وحكي ذلك عن طائفة من السلف، حتى نقل عن بعض الصحابة أيضا، وليس ذلك في كتاب ولا سنة " انتهى من"تفسير ابن كثير" (7 / 27).
وقال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى:
" وقد جاءت أحاديث في أن إسحاق هو الذبيح؛ ولكنها كلها ضعيفة " انتهى من"السلسلة الضعيفة" (1 / 509).
سبب قول بعض السلف بأن الذبيح هو إسحاق عليه السلام
ومن رجح من السلف أنه إسحاق عليه السلام، يحتمل أنه رأى أنّ المسألة مسكوت عنها في شرعنا، ووصلته أقوال من أهل الكتاب فاستأنس بها؛ لأنه قد ورد الإذن عن النبي صلى الله عليه وسلم بالحديث عنهم بما لا يخالف شرعنا .
وإما أن يكون قاله بعضهم لفهم فهمه من آيات القرآن، كما حصل للإمام الطبري رحمه الله تعالى؛ ينظر : "تفسير الطبري" (19 / 598 – 599).
وعلى كل حال؛ فالصحيح، كما قدمنا: أن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" وإسماعيل: هو الذبيح، على القول الصواب عند علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
وأما القول بأنه إسحاق: فباطل بأكثر من عشرين وجها، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- يقول: هذا القول إنما هو متلقى عن أهل الكتاب، مع أنه باطل بنص كتابهم، فإن فيه: إن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه بكره، وفي لفظ: وحيده، ولا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاده " انتهى من"زاد المعاد" (1 / 71).
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" وهذا هو الظاهر من القرآن، بل كأنه نص على أن الذبيح هو إسماعيل؛ لأنه ذكر قصة الذبيح، ثم قال بعده: ( وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ). ومن جعله حالا فقد تكلف، ومستنده أنه إسحاق إنما هو إسرائيليات، وكتابهم فيه تحريف " انتهى من"البداية والنهاية" (1 / 336).
وقال رحمه الله تعالى:
" وتقدم روايته عن كعب الأحبار أنه إسحاق.
وهكذا روى ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر، عن الزهري، عن أبي سفيان بن العلاء، بن جارية، عن أبي هريرة، عن كعب الأحبار، أنه قال: هو إسحاق.
وهذه الأقوال -والله أعلم-كلها مأخوذة عن كعب الأحبار، فإنه لما أسلم في الدولة العمرية جعل يحدث عمر، رضي الله عنه عن كتبه، فربما استمع له عمر، رضي الله عنه، فترخص الناس في استماع ما عنده " انتهى من"تفسير ابن كثير" (7 / 32).
وقال العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، رحمه الله:
" اعلم، وفقني الله وإياك، أن القرآن العظيم قد دل في موضعين، على أن الذبيح هو إسماعيل لا إسحاق. أحدهما في الصافات ، والثاني في هود .:
أما دلالة آيات الصافات على ذلك، فهي واضحة جدا من سياق الآيات.
وإيضاح ذلك: أنه تعالى [لما] قال عن نبيه إبراهيم : ( وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) =
قال بعد ذلك، عاطفا على البشارة الأولى: ( وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ) ؛ فدل ذلك على أن البشارة الأولى : شيء ، غير المبشر به في الثانية ؛ لأنه لا يجوز حمل كتاب الله على أن معناه: فبشرناه بإسحاق، ثم بعد انتهاء قصة ذبحه يقول أيضا: وبشرناه بإسحاق، فهو تكرار لا فائدة فيه، ينزه عنه كلام الله، وهو واضح في أن الغلام المبشر به أولا، الذي فدي بالذبح العظيم، هو إسماعيل، وأن البشارة بإسحاق نص الله عليها مستقلة بعد ذلك.
وقد أوضحنا في سورة النحل ، في الكلام على قوله تعالى: ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) [النحل/97]: أن المقرر في الأصول: أن النص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، إذا احتمل التأسيس والتأكيد معا: وجب حمله على التأسيس، ولا يجوز حمله على التأكيد، إلا لدليل يجب الرجوع إليه.
ومعلوم في اللغة العربية، أن العطف يقتضي المغايرة، فآية الصافات هذه، دليل واضح للمنصف على أن الذبيح إسماعيل لا إسحاق.
ويستأنس لهذا بأن المواضع التي ذكر فيها إسحاق يقينا، عبر عنه في كلها بالعلم، لا الحلم، وهذا الغلام الذبيح: وصفه بالحلم، لا العلم.
وأما الموضع الثاني الدال على ذلك، الذي ذكرنا أنه في سورة هود ، فهو قوله تعالى: ( وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ) [هود/71]؛ لأن رسل الله من الملائكة بشرتها بإسحاق، وأن إسحاق يلد يعقوب؛ فكيف يعقل أن يؤمر إبراهيم بذبحه، وهو صغير، وهو عنده علم يقين بأنه يعيش حتى يلد يعقوب؟!
فهذه الآية أيضا دليل واضح على ما ذكرنا، فلا ينبغي للمنصف الخلاف في ذلك بعد دلالة هذه الأدلة القرآنية على ذلك، والعلم عند الله تعالى. " انتهى من "أضواء البيان" (6/317-318) .
وينظر للفائدة: جواب الأسئلة التالية:
(قصة الذبيح).
(نبي الله إسماعيل أكبر من نبي الله إسحاق عليهما السلام ، باتفاق المسلمين)
(الغلامان الحليم والعليم اللذان بشر بهما إبراهيم عليه السلام).
والله أعلم.
تعليق